العراق في مقياس البلدان الجيدة لـ2019 : بين واقع مأزوم ومستقبل غير متيقن منه

Tuesday 14th of May 2019 12:00:00 AM ,
العدد : 4430
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

في البدء يمكننا القول بإن مقياس البلدان الجيدة Good Country Index للعام 2019 الذي تصدر أبرز قوائم المؤشرات الدولية للاعوام الخمسة الماضية أضحى مسألة يعتد بها عالمياً تشخيصاً لأوضاع عدد كبير من بلدان العالم ومن ضمنها العراق الذي مر بمراحل زمنية انتقالية حرجة يمكن توصيفها بزمن "المخاضات الكبرى" تحتاج منا تبيّن الشكل والمضمون الواضح نسبياً لخارطة الطريق المعنية أساساً بطرح العلاجات الضرورية التي يمكن أن تصل بنا لمحطات التغيير الايجابي.
أدرك منظمو المقياس بإن بلاد العالم تمر بمتغيرات سريعة متلاحقة ومركبة في المضمون كنتيجة لتنامي ظاهرة العولمة Globalisation التي استمرت بشكل واسع منذ تسعينيات القرن الماضي حيث غطت مختلف معالم ، وأبعاد ومظاهر الحياة الإنسانية بكل تقاطعاتها ومع كل التداعيات الناجمة عنها. الأمر الذي يستوجب توفر يقظة ووعي وطني يتسم بالمسؤولية آخذ بالاتساع لإنجاح التغيير الاستراتيجي المطلوب. التصور العام الذي وضعه المشرفون على المقياس يؤكد أن العالم مليء بمشكلات بل وأزمات من أمثلتها إنتشار حركات الإرهاب الدولي بأشكال مختلفة متنوعة برغم القضاء العسكري المبرم على واحدة من أخطرها " داعش" ، كذلك تصاعد مد الحراك العالمي الشعبي والرسمي بدرجات متباينة بهدف تشكيل جبهة واحدة ضد تغييرات بيئية خطيرة على رأسها تغييرمناخي يهدد البشرية بالفناء إذا لم يتم تخفيف حدة مخاطره.
ليس هذا فقط يشهد العالم تحركات فاعلة ومؤثرة لمواجهة تيارات الهجرة المتنامية من الدول التي تعاني مجتمعاتها واقتصادياتها من التخلف إلى دول تراها أو تتصورها الجماعات المهاجرة "ملاذات آمنة حرة متقدمة" يمكنها أن توفر عملاً مناسباً لشرائح من شبابنا المنتج . الشيء المهم تذكّره أن كل هذه المشكلات والأزمات أضحت من الصعوبة بمكان إيجاد حل واحد أوقاطع نسبياً لها. بمعنى أن مثل هذه الأوضاع السائدة بحاجة للتغيير الايجابي يتم من خلال تشكل جهد جماعي مكثف وليس جهود فردية أو ثنائية على أهميتها. من هنا، أهمية معرفة معطيات ومسببات التأخر والتخلف للدول النامية مقارنة بغيرها من الدول التي تداركت ذاتها واتجهت فعلياً صوب إحداث تغيير إيجابي "نهضوي" من خلال إطلاق مبادرة التنافس الإيجابي المشروع بالتعاون المشترك بين دول الشمال والجنوب في إطار مشروعات تنموية إنسانية .. إن مقياس البلدان الجيدة يعتمد على تحديد مدى إمكانية كل دولة عضو من تقديم إضافات إنسانية للبشرية جمعاء وفي السياق ذاته السعي للحفاظ على كوكبنا من التغييرات البيئية السريعة التي تحمل مخاطر التدمير للحرِث والنسل .
إن حالة التغييرالمناخي (الاحتباس الحراري الناجم عنه ارتفاع حاد لمعدلات نفاذية غاز ثاني أوكسيد الكاربون بالموازاة مع ارتفاع واضح لدرجات الحرارة بصورة غير مسبوقة) أضحى سمة العصر. المؤشرات المتبعة في المقياس أكدت أهمية تتبع نهج وسطي معتدل متوازن لحسابات الخسارة والربح يعتمد على توفر خيارات معينة دون غيرها أو حتى مقارنة بغيرها. المعادلة المهمة بسيطة بمضمونها : كلما حافظت الدول على كوكبنا وقدمت إضافات مهمة للجنس البشري كلما أمكن إعطاء توصيف غاية في الإيجابية لدول إتجهت صوب التقدم والازدهار. بمعنى آخر إنه يمكن لدول العالم أن تعنى ببقاء وارتقاء الجنس البشري دون التغاضي عن الحفاظ على مصالحها الحيوية . جدير بالذكر إن سايمون آنهولت Simon Anholt هَدَفَ من إطلاق مقياس الدول الجيدة أن يقدم لنا إجابة محددة نسبياً عن سؤال مهم جداً مضمونه يعكس أهمية عدم تغليب وضع أو حالة معينة على أخرى والمقصود هنا ضرورة عدم انشغال الدولة أو ساستها أو صناع قرارها بإتجاه السعي نحو خدمة وتعظيم مصالحهم الذاتية على حساب مصلحة الجنس البشري أو الإنسانية جمعاء وإلا ستنتهي وتتجه الأمور كلها ليس الى حافة الهاوية بل إلى الهاوية ذاتها.
ترتيباً على ما تقدم تأتي أهمية تقييم دورالدولة في إطار متوازن نسبياً يؤكد على إضفاء مزايا ومنافع للبشرية جمعاء دون إنتقاص من استمرارية توفر مساحة الإيجابيات للدولة أو للدول المعنية. من هنا ، أهمية تتبع النتائج النهائية لمسيرة وجهود الدول في ظل إعتماد ميزان عادل نسبياً لما إنجز من إيجابيات او سلبيات. هذا من المفيد التذكير إنه ليس بالضرورة أن تنجح الدولة أو تفشل كلياً في ماتقدمه إذ قد تتخذ موقفاً وسطاً أو معتدلاً بين الموقفين الايجابي والسلبي. ولكن في كل الأحوال لن يتم إصدار أحكام قيمية قاطعة من قبلنا .
إن الإعلان عن مقياس البلاد الجيدة حقق أول نتيجة عملية تمثلت بإثارته للقضايا والتحديات الكبرى في المحيطين الخارجي والداخلي حيث النقاش العلمي الموضوعي لكل مكونات التفاصيل المشكلات القائمة من أجل تحديد مكانة status محددة مصنفة لدول العالم. ضمن هذا السياق يمكننا أن نتبين من القضايا المحورية : حالة العلم والتقنية ، طبيعة الهوية الثقافية ، السلم والأمن الدوليين، شكل ومضمون النظام العالمي ، معرفة متغيرات الكون والتغيير المناخي، تتبع مستويات الرخاء والمساواة وأخيراً أهمية توفر الصحة والرفاهية المنشودة . في المقدمة وردت أسماء عشرين بلداً حققت إنجازات مهمة على مختلف الصعد المادية والمعنوية : بدءاً بفنلندا تبعتها هولندا ، إرلندا، السويد ، المانيا ، الدانمارك ، سويسرا ، النروج ، فرنسا ، إسبانيا ، كندا ، بلغاريا ، بلجيكا ، استونيا ، المملكة المتحدة ، لوكسمبورغ ، نيوزلندا ، النمسا ، ايطاليا واستراليا. أما البلاد التي تقع في أقصى العمق من حالات التخلف من نماذجها : غينيا، مالي ، بابوا غينيا الجديدة ، أنغولا ، غابون، سورينام ، اليمن، موريتانيا ، ليبيا، العراق. أن يتذيل العراق القائمة برقم 153 لشأن مؤسف حقا يدمي القلوب ما يستدعي منا تقديم تشخيص مناسب وشافٍ لجملة التساؤلات التي يراد الإجابة عنها إضافة لتحديد المسببات التي تنتج المشكلات والأزمات بغية تقديم التفسير أو التعليل المناسب لها كمقدمة لعملية المجابهة الواسعة "جماهيرياً - ستراتيجياً" ومؤسساتياً من خلال استخدام كل الامكانات المتاحة بشرياً ومادياً . تاريخياً تميز العراق عبر مساحة الزمن والمسافة بكونه من أقوى دول المنطقة في حقول العلم ، التقنية بل وفي ميدان الابتكار حيث أسس لبنات مستدامة ل"عراق حضاري" عرفته الأمم وأخذت عنه الكثير من إبداعاته وإنجازاته العلمية والمعرفية الإبداعية كماً ونوعاً. من الأمثلة القريبة تلك التي تعد باكورة إنطلاق ايجابية عكستها جملة من تقارير منظمة اليونسكو في الاعوام 2014- 2018 التي تعتبر من أكثر المنظمات الدولية إهتماماً بشؤون العراق المتنوعة (التربوية –الثقافية - العلمية – الاتصال والمعلومات وغيرها). تقديري أن ما قدم من بيانات ومسوحات وإنفاق لأموال كبيرة هدفها تطوير مشروعات دولية مشتركة مع العراق لازالت بحاجة لإنجاز حقيقي يتم من خلال إعتماد مايلي :
أولاً: رؤية جيوسياسية شاملة و ثاقبة ،
ثانياً الحاجة لإدارة شاملة متكاملة تعنى بتقاطع الاهتمامات والمصالح التي من الممكن أن توفر للعراق أرضاً خصبة للنمو وللتنمية (الزراعية – الغذائية – الصناعية – التقنية - الخدمية وغيرها).
ثالثاً أن تعكس طبيعة الرؤية ضرورة تحديد نقاط الضعف الرئيسة من أجل تجاوزها ومن ثم العمل على رسم خارطة طريق Roadmap تحقق لبلدنا إنجازات حقيقية مستقبلية متقدمة. اشير هنا فقط كمثال للتوضيح يتعلق بإطلاق اليونسكو والاتحاد الأوروبي للمرحلة الثانية من تنفيذ مشروع بناء القدرات العراقية في نيسان 2017 والهدف هو أهمية وضرورة تغلب العراق على "الاثر السيئ لنقص المياه" بأستخدام آلية "المسح المتقدم للموارد الهيدرولوجية في العراق". إن تنفيذ مثل هذه المبادرة بصورة مناسبة وصحيحة ستدر على العراق وشعبه عدداً من المنافع المهمة :
أولاً: إثراء الامكانات الوطنية من خلال تطبيق اسلوب الاستكشاف
ثانياً: تعزيز الإدارة المتكاملة للمياه الجوفية
ثالثاً: الارتقاء ب"كفاءة وفاعلية التخطيط العام ".
رابعاً : العمل الجاد على "تطبيق سياسة مستنيرة لإدارة القطاع الوطني للمياه".
لاشك إن مبادرة شاملة كهذه الى جانب كونها عملية تراكمية لسلسلة من الانجازات الحيوية ستمكن العراق أيضاً في نهاية المطاف أن يحقق درجات فضلى من الارتقاء والتنمية. ولكن ليس كل ما يريده (العراق) سيدركه مستقبلاً خاصة في حالة الفشل المتوقع في بناء منظومة مجتمعية واحدة موحدة تنسجم مع تطور العراق استراتيجياً - إقتصادياً – علمياً وثقافياً وتقنياً . من هنا أهمية تحديد بعض من الأفكارالمختارة لإصلاح الأوضاع المتردية من خلال :
التأكيد على أولوية الهوية الثقافية العراقية في جذرها الرئيس عربياً وإسلامياً وفي جذورها الفرعية التي تضم هويات فرعية متنوعة عرقياً – دينياً – مذهبياً - قبلياً بصورة تعطى فيها الغلبة للهوية العربية- الاسلامية مع إحترام وتعايش إنساني واضح مع كل تلاوين الطيف العراقي. ضمن هذا التصور ليس لائقاً للعراق سوى بناء هوية مدنية للدولة أو تشكل دولة المواطنة الحقيقية التي توفر حقوقاً وحريات والتزامات متقابلة دون أي نوع من التمييز في إطار منظومة محاصصة مقيتة قائمة - منذ 2003 - على أسس حزبية – طائفية – مذهبية – عرقية – قبلية – جهوية . واقع مأزوم وغير مستقر يستلزم بل يجب تغييره إلى حالة أفضل هدفها حماية حقوق وحريات الإنسان الاساسية . هذا وكي يكون العراق عضواً فاعلاً مؤثراً في النظام الدولي لابد من أن يسهم بتحقيق السلم والأمن الدوليين مع مايقتضيه من نجاح في تأمين السيادة الوطنية منعاً للتدخلات الأجنبية "غير المحمودة" إقليمياً و دولياً. أما دور العراق في تشكل النظام العالمي الجديد فهو أمر يتطلب من صنّاع قراره التيقظ لكل المخاطر المحتملة ومواجهة التحديات الوطنية بكل اقتدار وكفاءة مع إمكانية التكييف العملي والعلمي مع روح العصر للاستفادة من ما يتوفر من إيجابيات حيوية على رأسها الاهتمام بالتطورات التقنية التي تنتج لنا الحكومة الالكترونية التي تسهل إنجاز التعاملات المختلفة دون المضي وراء الخطوط الحمر لبيروقراطية بائدة معيقة للتقدم ولكن دون التخلي عن أولوية المصلحة الوطنية العراقية. القضية المحورية الأخرى التي تحتاج من صنّاع القرار للتدبر وللبحث المعمق تخص متغيرات المناخ الكوني خاصة مايعرف بظاهرة التغيير المناخي العالمي التي اضحت جزءاً من تقلبات المناخ السريعة الايقاع في العراق والمنطقة الشرق أوسطية بين حالتي الجفاف – التصحر من جهة و تصاعد المد المائي من جهة أخرى أنتجت فياضات وسيول عارمة الأمر الذي يحتاج لكل الخبرات التخصصية بصورة تمكن من الحفاظ على الثروة المائية (مثال / تأسيس مشروعات سدود جديدة) الضرورية لكل قطاعات الحياة الاقتصادية . أخيراً فإن ما يمتلكه العراق من ثروات بشرية متخصصة ومادية - معدنية –نفط وغازطبيعي - ستمكن العراق من إنجاز متطلبات التنمية البشرية ورفع مستوى النمو الاقتصادي – الاجتماعي السنوي . كل ما تقدم يفترض أن يتحقق في ظل نظام قانوني رصين وعدالة إجتماعية توفر حماية مناسبة وتأميناً مادياً ومعنوياً للفئات الأشد تضرراً من ذوي الاحتياجات الشخصية وغيرهم من فئات قابلة للتعرض لشتى المخاطر الإنسانية (الشباب ، الكبار ، المرآة والطفل) . إن نجاح المتغيرات الإيجابية سيسمح بإرتقاء العراق إلى مستويات عليا من الإزدهار والتقدم في شتى حقول المعرفة والانتاج العلمي – التقني الذي يقود لتحقيق الرفاهية وإرتفاع مستويات الحياة تضيقاً للفجوة الواسعة بين من يملك ومن لايملك ما يمكن الطبقة الوسطى من قيادة مرحلة الحكم القادمة. إن نجاح العراق في حراك الاصلاح مسالة حيوية ينتظرها كل العراقيين بهدف جعل وطنهم عضواً فاعلاً في مقاييس التنمية البشرية ، الدول الجيدة والدول الأفضل Best Countries. الأخير"مقياس أخر جديد" يعكس أهمية تضيف للدول المصنفة بالجيدة مضامين وسمات مهمة أخرى على رأسها المواطنة الحرة التي تشتمل على رعاية حقوق الإنسان ، الاهتمام المجتمعي بالبيئة النظيفة الخضراء، "المساواة الجندرية" بين الذكور والاناث، إطلاق الحرية الدينية ، احترام حقوق الملكية، الاعتمادية والموثوقية بنظام الدولة السياسي والتوزيع العادل للقوة السياسية. عناصر جديدة أخرى اضيقت في مقياس الدول الأفضل : التأثيرات الثقافية ، المبادرات الاقتصادية الحرة ، جودة الحياة ، القوة بعناصرها الخشنة (العسكرية والاقتصادية) والناعمة ( السياسة الخارجية والدبلوماسية ، الإعلام والعلاقات العامة). إن دراسة كل مؤشر في مقاييس الدول الجيدة والأفضل بحاجة للتعمق أكثر في معطياته وتداعياته منعاً لانتشار حالة عدم التيقن التي تؤثر سلباً على بناء عراق حر منفتح ومستقل..