مع أطيب ذكرياتي: سيرة ذاتية غير مراوغة

Wednesday 15th of May 2019 12:00:00 AM ,
العدد : 4431
الصفحة : عام ,

كه يلان محمد

اعترف معظم الأدباء بالاستفادة من التجارب الذاتية وما تراكم في منجم الذاكرة لبناء المنجز الإبداعي. وقد يكون النص الروائي أكثر وضوحاً في التعبير عن العلاقة القائمة بين المادة الأدبية وصاحبها، لذا جرت العادة أن تحمل الأعمال السردية علامة تجنسية مركبة (سيرة ذاتية روائية) أو (السيرة الروائية) فالمصطلح الأخير صياغة ماكرة لحياة الروائي، فهنا تكون مرجعية الراوي هي ما خبره الروائي في الحياة الواقعية على حد تعبير سعد محمد رحيم.
زدْ على ذلك فإن المتلقي لا يفتقد تلك المؤشرات التي تحيله إلى حياة المؤلف في النص الروائي، وبالأخص في ما سمي بروايات التكوين. بالطبع فإن مستويات الحضور تتفاوت وتتخذ أشكالاً متنوعة وقد يتستر المؤلف وراء صيغ مراوغة، ولكن لا ينسحب من فضاء عمله ويمرر تجاربه بين خيوط السرد، وإذا كان الأمر بهذه الدرجة من التداخل فلماذا يكتب الروائي سيرته طالما حياته مبثوثة في ثنايا نصوصه؟ هل من الضروري سرد حياته بعيداً عن أسماء مجازية وحيل علامات مركبة؟ ما ألفته الروائية الفرنسية فرانسواز ساغان بعنوان «مع أطيب ذكرياتي» الصادر من دار المدى مؤخراً، يضعنا أمام صورة أخرى لحياة صاحبة «صباح الخير أيها الحزن» بدون اللجوء إلى مناورات استعارية، بل ما يرد ذكره في إطار هذا النص له مرجعية واقعية مرتبطة بشبكة من العلاقات التي نسجتها فرانسواز ساغان مع الأوساط الثقافية والفنية، إضافة إلى الإفصاح عن شغفها بالقمار والسيارات الفارهة، لذلك تفاجئك عتبات بعض فصول سيرتها، إذ اختارت السرعة والقمار عناوين فرعية. كما هو معروف تعرضت ساغان سنة 1957 لحادث سير كاد أن يودي بحياتها نتيجة السرعة. وهي تعترف بأن الأموال لا توفر السعادة لكنها تفضل أن تبكي في جاغوار بدلاً من الباص.

مدلول العنوان
تنطلق مقاربة جنس السيرة الذاتية من الحواشي والعتبات، بهدف التأكد من التطابق بين الراوي الذي يسرد القصة المستعادة والمؤلف، أي ما اعتبره فيليب لوجون وثيقة ينهض عليها فن السيرة الذاتية. تتمثل سيرة فرانسواز ساغان لهذا الشرط لأن عنصر الراوي في بناء النص وتمفصلاته، يحلينا إلى الاسم المطبوع على الغلاف، لكن ما يهمنا أكثر في هذا السياق هو مدلول العنوان، وما يضمره من الإيحاءات. فمفْردة أطيب، وهي مقترنة بذكرياتي تستدعي إلى الذهن ما يقابلها في الدلالة، وسكت عنها فرانسواز ساغان، لأنها أرادت الحديث عما أعجبها وشدها إلى الحياة إذن فإن ما يثير الحزن ويذكرها بلحظات مؤلمة غاب في هذه الحزمات السردية. قبل أن ينساب السرد في حركة ارتدادية نحو الماضي ثمة عبارة مقتبسة من قارب سكران يتم فهم فحواها بمتابعة ما ينتهي إليه الكتاب في جزئه الأخير. ومن ثم تستهل فرانسواز ساغان الفصل الأول، بوصف مدينة نيوريورك وتضاريسها وطبيعتها المناخية. يذكر أن استعادة الماضي سردياً تأتي مطعمةً بنكهة الحنين إلى الأمكنة.
إعجاب الكاتبة الفرنسية يذكرك بانشداد الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو إلى عاصمة المال الأميركية، حيث يقول مؤلف «مدن لامرئية» بأن المرء يفكر في كل شيء فور وصوله إلى نيوريورك ما عدا العودة إلى دياره. وفي السياق ذاته تلمح فرانسواز ساغان إلى الضجة التي رافقت زيارتها الأولى إلى نيورورك، إذ كانت مدعوةً من قبل ناشرها وتلاحقها الأضواء عقب نشر روايتها «صباح الخير أيها الحزن» التي ترجمت إلى عدة اللغات. تركت المدينة للوهلة الأولى انطباعاً ساحراً لدى زائرتها، ما حدا بها إلى أن تعود إليها بصحبة ميشال مانيا، فالأخير كان مؤلفاً موسيقياً وصفته ساغان بصديق طيب. وفي هذه الزيارة الجديدة تلتقي بالفنانة الأميركية بيلي هوليداي، التي كانت تحيي حفلاتها في مبنى الكارنيجي هول، قبل أن تمنع من ذلك إثر تعاطيها للمخدرات. طبعاً هذا الخبر لم يثن ساغان من الوصول إلى مكان إقامة الفنانة في كونتيكت إيفيلن، وما أن تعلم هوليداي بتواجد فرنسيين قطعا مسافة لرؤيتها، حتى تعبر عن سعادتها بألفاظ لطيفة. تقضي ساغان خمسة عشر فجراً على حد تعبيرها داخل النادي الليلي المتخم بالدخان وتستشف مما يضمه الفصل الأول جانباً من حياة الفنانة هوليداي المنحدرة من أصول السود ومكابداتهم.
تدخل فرانسواز ساغان هذا العالم وهي في الواحدة والعشرين من عمرها، إذ تعملت أهمية كتم المشاعر أمام الملتفين حول الطاولة، وصادفت في كازينوهات القمار مشاهير السياسة منهم الملك فاروق، وما تربحه بفضل رقم ثمانية تمكنها من شراء البيت، الذي أقامت فيه مستأجرة.
وتشير ساغان إلى اللقاء الذي يجمعها بعد سنتين بالفنانة الأميركية في باريس. وتتناول فرانسواز ساغان في الفصل الثاني تجربتها مع لعبة القمار، لافتة إلى أرقامها المفضلة على الروليت .تدخل فرانسواز ساغان هذا العالم وهي في الواحدة والعشرين من عمرها، إذ تعملت أهمية كتم المشاعر أمام الملتفين حول الطاولة، وصادفت في كازينوهات القمار مشاهير السياسة منهم الملك فاروق، وما تربحه بفضل رقم ثمانية مكنها من شراء البيت، الذي أقامت فيه مستأجرةً، أكثر من ذلك تختبر ساغان مذاق الخسارة والربح في أحد النوادي الإنكليزية المعروفة هالها المبلغ الذي أصبحت مدينةً به، الأمر الذي يدفع بها نحو المغامرة والمقامرة المتهورة، إلى أن تبتسم لها الأرقام من جديد. وتستعيد ساغان مرارة الخسارة لمدة عشرة أيام في كازينو مانش، وما يعقب ذلك من الربح الكبير الذي يشعر ساغان بفخر لا يوازيه ما أحست به عندما قرأت مقالات تشيد بتجربتها الإبداعية. يذكر أن ساغان تورد تفصيلات دقيقة عن سايكولوجيا المقامر. وفي بداية الفصل الذي يحمل اسم الكاتب الأمريكي تنيسي ويليامز تفرد فرانسواز ساغان مساحةً للحديث عما أثارته روايتها «صباح الخير أيها الحزن» من ردود فعل عنيفة في فرنسا مشيرة إلى أنه بعد مرور أكثر من ثلاثين سنةً لم يعد هناك في ذلك العمل الروائي ما يعتبر غير مستساغ بالنسبة للوسط الاجتماعي.

صحبة الأدباء
يبدو أن فرانسواز ساغان كانت مندفعة لإقامة علاقات الصداقة مع الأدباء، لذا ترى في صفحات سيرتها أسماء المشاهير تتوارد، إذ تتذكر الكاتب الأمريكي تنيسي وليامز معبرةً عن إعجابها الشديد بمؤلف رائعة «العربة اسمها الرغبة» كما تترجم عمله المسرحي «طائر الشباب العذب» إلى الفرنسية وتعطف بالحديث في هذا الإطار إلى شذوذ وليامز الجنسي وصداقته الحميمة مع الكاتبة الأميركية كارسون ماكولرز مؤلفة «أنشودة المقهى الحزين» التي كانت تقضي أيامها في المصحة كلما تفاقمت معاناتها النفسية. وما زاد من صعوبة حياتها، حسب رواية ساغان، هو مرض والدتها حيث تحملت كارسون لوحدها هذا العبء. تنجذب ساغان إلى النص المسرحي، وهي في الثانية عشرة من عمرها، كانت ترغم والدتها للاستماع إلى قراءاتها المسرحية، وتكتب في 1960 نصها المسرحي الأول بعنوان «قصر في السويد» ويلقى إنجازها نجاحاً عندما يمثل على الخشبة.
يشار إلى أن ما هو لافت في كلام ساغان حول تجربتها المسرحية هو مقارنتها بين كتابة الرواية والقصة مع النص المسرحي، محددةً ما تتطلب هذه الفنون من الدقة والحذاقة والحساسية، فضلاً عن ضرورة الإدراك للمساحة المتوفرة. ويدور قسم آخر من سيرة ساغان حول زيارتها إلى أمستردام ولقائها براقص باليه رودولف خامتيموفتيش نورييف، وتروي مشاهداتها لشاطئ سان تروبيه في مراحل عمرية مختلفة.

التكوين المعْرفي
وقبل أن تتوقف ساغان عند تكوينها المعرفي تضمن الرسالة التي كتبتها لجان بول سارتر في 1979، وهي تمنت أن يصل نص الرسالة إلى الفيلسوف الوجودي في 21 حزيران أي بالتزامن مع ذكرى ميلاد ساغان وسارتر وميشيل بلاتيني، طبعا هؤلاء الأشخاص الثلاثة يمثلون القوة الناعمة للحضارة الفرنسية. ومما تحتوي عليه الرسالة تأكيد ساغان على أنها أينما حلت في العالم فالجميع يتحدثون عن سارتر وتبلغه بأن كتاب (الكلمات) أكثر سطوعاً في الأدب الفرنسي، وتخاطب سارتر واصفة إياه بالرجل الوحيد للعدالة والكرم وصانع الحب. تعتقد فرانسواز ساغان أن حياة سارتر صارت مثلاً يقتدى، علما أن ذلك الأمر لم يكن غايته أبداً. وما أن تلتقي ساغان بسارتر حتى يبدي الأخير سعادته بما خطته في رسالتها، مستدركاً أنه لم يطلبْ إعادة قراءة الرسالة على مسمعه، مخافة أن يتهم بالنرجسية، ومن ثم تسجل ساغان ست ساعات من بوحها لسارتر، واضعة على الشريط لاصقة حتى يتعرف عليه باللمس بعدما حرم من البصر.
يذكر أن ما دونته الكاتبة الفرنسية في الفصل الأخير يفيض بالتشويق والمتعة الذهنية تسرد في هذا المفصل تجربتها المعرفية، والكتب التي شكلت وعيها قوت الأرض لأندريه جيد والإنسان المتمرد لألبير كامو، وإشراقات رامبو، وتبوح فرانسواز ساغان بأن ذكريات القلب لم تخلف لديها شيئا سوى تشوش تام. ولم يرسم خطوط حياتها بالوضوح سوى القراءة . على صفحات هذا المؤلف ترى وجوهاً كثيرة لشخصية ساغان، فهي ليست كاتبة ولا مخرجة مسرحية فقط، بل مقامرة طابت لها الطاولة الخضراء، كما كانت تحب سباق السيارات واختبار الوصول إلى حافة الموت ومن ثم العودة إلى الحياة..