نصٌ مُحكم.. إخراجٌ بارع وأداءٌ كورالي جميل..سعفة «كان» الذهبية تُرفرف في عاصمة كوريا الجنوبية

Wednesday 29th of May 2019 12:00:00 AM ,
العدد : 4441
الصفحة : سينما ,

المدى في مهرجان كان السينمائي 72

 عرفان رشيد
مهرجان (كان) السينمائي الدولي

لو نظرنا إليه كمجرد نص سينمائي فقد كان يستحق جائزة السيناريو كونه كُتب بإحكام يدٍ وبصيرةٍ عارفتين؛
لو قيّمناه من وجهة النظر الإخراجية لاستحق السعفة الذهبية كأفضل إخراج؛
ولو نظرنا إلى أداء ممثلّيه لاستحقت مجموعة فريق الفيلم جائزة خاصة بالأداء الكورالي، فقد أدّى الفريق أدوار الفيلم كفرقة سيمفونية لم تنشزْ لديها أية نغمة؛
ولأن الفيلم ليس مجرّد واحدٍ من هذه الأشياء لوحده، بل هو كلٌ متكامل، فإنّ لجنة التحكيم الدولية، برئاسة الأوسكاري المكسيكي آليخاندرو غونزاليس إينيارّيتو، منحت شريط المخرج الكوري الجنوبي تونغ جون - هو «طفيليّون» جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم معروض في مسابقة الدورة الثانية والسبعين من مهرجان «كان» السينمائي الدولي الذي التي اختُتمت مساء السبت الماضي.
ومنذ اللحظة الأولى من الانتهاء من مشاهدة الفيلم في عرضه الصحفي الأول في الحادي والعشرين من أيار، والمهرجان لمّا يزالُ في منتصفه، فقد سادت القناعة بين الكثير من النقّاد بأنّ مخرج «طفيليون» وفريقه سيحملون معهم، في رحلة العودة إلى العاصمة الكورية الجنوبية سيئول، ذهب «كان» الذي يُشعّ من السعفة التي تُمثّل الحلم لدى الآلاف من صُنّاع السينما في العالم، تلك السعفة التي أعادت دار «شوپار» قبل بضع سنوات صياغتها واضعة في قاعدة جذعها قلباً نابضاً. وبذا وضع قرار لجنة االتحكيم الدولية سعفة «طفيليون» إلى جوار سعفة الياباني كوري إيدا هيروكازو الذي ناله في العام الماضي عن فيلمه الجميل "سُرّاق المتاجر".
وقد أظهر تتالي الجائزة الأهم في مهرجان «كان» من الفيلم الياباني في العام الماضي، وإلى الفيلم الكوري الجنوبي في هذه السنة، حالة العافية المطلقة التي تسم الإنتاج الجنوب آسيوي منذ بضعة أعوام، على العكس من الكثير من الإنتاجات الأوروبية التي لم ترقَ إلى مستويات استحقاق الادراج ضمن برنامج المسابقة الرسمية في مهرجانٍ هام مثل مهرجان «كان»، ودون التوقّف عند أسماء الكثيرين من مخرجي هذه الأعمال، لا بدّ لنا أن نُشير بأن العديد من الأفلام التي أدرجها المدير الفني لمهرجان «كان» تييري فريمو في المسابقة الثانية «نظرةٌ ما»، كانت تستحق بالفعل أن تكون ضمن المسابقة الرسمية ومن بين هذه الأعمال نُشير إلى عملي المخرجتين العربيّتين مُنية مدّور « پاپيشا»، والمغربية مريم توزاني «آدم»، و«الحياة الخفيّة ليوريديس غوسمان» للبرازيلي (عربي الأصول) كريم عينوز، الذي فاز بالجائزة الأولى لهذه المسابقة، وإلى أعمالٍ أخرى غيرها.

ناس القاع وأثرياء العُلى
في شريط «طفيليون» ثمة ثلاثة نماذج بشرية مُمثّلة في ثلاث عوائل، تعيش إحداها (عائلة السيّد بارك الثريّة) التي تعيش في الأحياء العليا من المدينة؛ وتعيش الأخرى (عائلة كو-وو ووالديه وشقيقته) التي تعيش في قاع المدينة الغارقة بالفقر والعدم والتي ستُغرقها مياه الأمطار الوفيرة؛ أمّا العائلة الثالثة، فهي عائلة المُدبّرة السابقة لمنزل السيّد پارك، والتي تعيش برفقة زوجها المختفي عن وجه العدالة في اللامكان. ثلاثة عوائل وثلاثة عوالم تتعايش جنباً إلى جنب، كتفاً بكتف، لكنّ البون الذي يفصل بينها هو، في الواقع، أوسع وأعمق ممّا قد يبدو في الظاهر، وهو بونٌ سيغرق فيه الجميع دونما استثناء.
يعيش كو-وو في شقّة متواضعة للغاية تقع في الطابق ما دون مستوى الشارع العام، ويُشكّل اكتظاظ المكان الضيّق برفقة أبيه كي - تايك (ويؤدّيه ممثله المفضّل سونغ كانغ-هو) وأمّه تشونغ - سوك وشقيقته كي - جونغ مشكلة حياتيّة حقيقيّة، إلاّ أنّ الآصرة العائلية التي تربط فيما بين الأربعة هي أقوى من جميع الظروف القاسية. ويسْعى الجميع لتدبير لقمة العيش عبر أعمال وأشغال بسيطة لا تدرّ إلاّ القليل من المال والكثير من شروط التبعيّة إلى الآخرين. لا أفق واضحاً لدى الأربعة ولا برامج إستراتيجيّة، لكنّهم لا يخلون من الزهو ومن قدر من المهارة والمخاتلة والمراوغة والاحتيال.
وتبدو حياة هذه العائلة سادرةً على ذات المنوال لولا فرصة غير مُنتظرة يوّفّرها صديق لـ كي ـ وو، وذلك بالعمل كمعلّم لدروس إضافيّة للّغة الإنجليزية لإبنة عائلة ثريّة: الأجر المدفوع له عالٍ بشكلٍ جيّد، والفيلّا التي يسكنها السيد پارك، الذي يعمل مديراً في شركة للمعلوماتيّة، هو بمثابة جوهرة من جواهر العمارة.
ولمجرّد دخول كي-وو إلى منزل السيّد بارك يستنبط عملاً لشقيقته كي-يونغ، كخبيرة إجتماعية معنيّة بمشاكل الصبيين والأولاد النفسيّة، وكمعلّمة لتحفيز إبن العائلة الصغير في الرسم. ويعمل بجدٍ لأنّ يحلّ والده محل سائق العائللة ووالدته محلّ مدبّرة المنزل، وينتهي الأمر بأفراد العائلة الأربعة كعاملين في منزل السيّد بارك، لكن دون أن يعلم السيّد بارك أو زوجته بالآصرة العائلية التي تربط بين. تثق عائلة السيّد پارك بالعاملين الجدُد إلى درجة أنّها تترك لمدبّرة المنزل مفاتيح البيت وتذهب في سفرةٍ سياحية. تبدو الأوضاع قد استقرّت لعائلة كي وو، لكنّ تطوّراً غيرُ متوقّع يُعيد خلط الأوراق، إذْ تعود المُدبّرة السابقة لتستعيد شيئاً كانت قد نسيته في قبو المنزل. فما هو الشيء الذي نسيته هناك؟
وعلى عكس ما قد يوحي إليه عنوان هذا الفيلم ومواضيع أفلام هذا المخرج السابقة «مُهشّم الثلج» و «المُضيّف» و «أوكجا»، فلا وجود لأية حشرات أو كائنات خرافية وحالات من الخيال العلمي، فإن كلّ ما في فيلم «طفيليون» ينبض بالحياة الطبيعية ويتحدّث عن بشر اعتياديّين يعيشون عند حافة الواقع، يتقاذفهم التلفيق والكذب والانتحال. ثلاث عائلات تتقاطع مصائرها في مكانٍ ظاهره طبيعي وعمقه مُغلفٌ بالغموض والأسرار.
لا تنأى أجواء فيلم ”الطفيليّون" الكوري، كثيراً الفيلم الياباني «سُرّاق المتاجر»، إذْ تدور احداث كلا الفيلمين حول المأساة البشرية التي تعيشها مجموعة من البشر في طل ظروف قاسية تدفع بها الى اجتراح الاحتيال كعنصر أساسي للتمكّن من مواساة العيش وسدّ الرمق، ويبلغ ذاك الاحتيال الى حدود قصوى تسيل بسببه دماءٌ كثيرة، جاعلاً من النزق والوقاحة البراغماتية عنصرين هامّين لتحقيق الاحتيال، وهما ما يجعلان ابطال القصّة يظهرون وكأنّهم مقتنعون سعداء بما فعلوا، ويتم استيعاب النتيجة المأسوية كقدرٍ مكتوب في أقدارهم ولا مناص منها أو حياد عنها، وإن ما ينبغي عليهم مواجهته لا بدّ أن يحدث، وقُضيَ الأمر.