قصة مدينة النحاس لـ فوزي كريم

Sunday 9th of June 2019 08:52:39 AM ,
العدد : 4443
الصفحة : عام ,

صلاح نيازي

نتعرّف في قصّة مدينة النحاس لفوزي كريم، على سبب آخر من أسباب الآغتراب، وفي الوقت نفسه، نتعرّف على نفسية بطل القصّة الشرقي، من خلال تجربة جنسية.

رأى راوية القصّة، كما رأى توماس كارلايل من قبل، أنّ "روح الماضي برمّته إنّما يكمن في الكتب".

تبدأ القصة كالتالي: "توقّفت، وأنا أتصفح كتاب مروج الذهب، للمسعودي، عند حديث "مدينة النحاس"..."وإنّها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة، ظفر بها موسى بن نصيْر، في غزوته إلى المغرب، وانها مغلقة الأبواب، وأن الصاعد إليها إذا أشرف على الحائط صفّق ورمى 

بنفسه فلا يرجع إليها آخر الدهر".

هذا الغموض العجيب شدّ راوية القصّة وزاد من أوار فضوله. يقول الراوية:"مما أثار دهشتي حقّاً أنّ ورود الخبر دون إشارات وشروح في الهامش قد خلّف لديّ شيئاً من خيبة الأمل والمرارة".

دفع الفضول براوية القصّة، إلى كتابة رسالة آستفسارية، إلى محقّق الكتاب بالقاهرة، ولكنْ ما من جواب. بعد سنين، تقع في يده "طبعة حجرية من مروج الذهب"، طُبِعتْ بأصبهان، إلاّ أنّها زادتْ من حيرته. كيف؟ "ومن أعجب ما وقع لي وأنا أبحث متلهفاً، عن نصّ مدينة النحاس بين السطور، أنني وجدتُ الخبر، قد أُتلف برمّته، مخلّفاً شتاتاً من الحروف هنا وهناك. أوقفني هذا الأمر كثيراً وأضفى في داخلي على الخبر بعداً جديداً".

بهذه الخيبات المتواليات، يكون المؤلف، قد أخذ زمام قارئه بإحكام. من ناحية أخرى، لا بدّ أن يكون القارئ قد آعتقد الآن، أنّ بطل القصّة لا علاقة له بالحاضر ولا بالمستقبل، وبالتالي لا علاقة له بالسياسة. أكثر من ذلك فإنّ جغرافيته المحدودة في التجوال في زقاق محلّته الصغيرة، وهامشية تلك المحلّة الصغيرة "على نهر دجلة في جانب الكرخ"، تدللان على آنعزالٍ زماني ومكاني في آن واحد. مع ذلك كانت ثمّة عيون تراقبه.

التمهيد الذي قدّمه راوية القصّة لآنصرافه الكلّي لمسألة تأريخية خاصّة جدّاً، يجعل تلك العيون المترصّدة، على أشُدّها تطفّلاً. ما سرّها؟

على حين غرّة، تفشّت في البلد، فلسفة جديدة :"إذا لم تكنْ منّا فأنت علينا". تغيّر إيقاع المحلّة، وشرع الحزبيون يطرقون الأبواب في أيّ وقت يشاؤون. لكنْ كيف التوفيق بين راويةٍ لقصّة وبحثه الدؤوب، وربّما العابث، عن مدينة النحاس، وبين سلطة مرتابة، في كلّ معرفة غير معرفتها. مغادرة البلد حلّ.

عند هذا التوقيت تظهر الامّ وكأنّها الجذر الأساسي الذي تركه الراوية وراءه. حتى الأمّ - ياللعجب وما من عجب – تحثّ آبنها على الرحيل.

يقول الراوية :"في يوم السفر الذي كان شديد التكتّم والسرّية آحتفظتُ بالطبعة الحجرية من "مروج الذهب" بين طيّات الثياب في الحقيبة، وكأنني أُودِعُ دواء للطوارئ، وغادرتُ المنزل فجراً".

لماذا أخذ معه "مروج الذهب" وهو الذي وجد خبر المدينة النحاسية، في تلك الطبعة الحجرية،"قد أُتْلِفَ برمّته مخلّفاً شتاتاً من الحروف هنا وهناك". هل هو التشبث بالماضي ولو كان مطموساً؟

في القسم الثاني من القصّة، نصادف الراوية، عاملاً يغسل الصحون في مطعم إيطالي، مع شابّة إيطالية، آستدرجهما الجهد المشترك "إلى تبادل الآهات الصغيرة والهموم الصغيرة والآلام الصغيرة ثمّ الآتفاق على السكن في غرفةٍ بعيدة".

يبدو أنّ كلمة "بعيدة"، مواصلة لتلك الروح الآنعزالية التي ورثها عن محلّته ببغداد. كما أنّ "الصغيرة" التي تكررت ثلاث مرّات، تفيد أوّلاً على حميمية الألفة بين الآثنين، كما أنها توحي بأن همّ الراوية أكبر، لأنّه منصرف كلية إلى مدينة النحاس. كلّ شئ عدا ذلك طفيف.

كشفت تجربته الحسية مع الفتاة الإيطالية، عن جوعه الطويل.، وعن غرارته."فاللمسة المترددة"، و"هستريا الحركة الفزعة"، والقبض على النهديْن" و"والانصراف كالسارق إلى ما بين الفخذيْن" و"والانطفاءات العاجلة" تدلّ كلّها على عمليات متشنجة لا تبلغ ذروتها بالتطوّر والنموّ".

الغريب أن تلك التشنجات لم تثرْ في تلك الفتاة الإيطالية إلاّ الحنان :"آحتضنتْ رأسي وضمّته إلى صدرها، فأيقظتْ بي طفولة من سبات طويل آستعدتُ بها لمسات أمّي البعيدة".

بهذه الوسيلة اللامباشرة، تكون هذه الفتاة الأجنبية، قد أرجعته إلى ماضيه أوّلاً، وإلى حنان أمّه المتمثّل باللمسات، أي لا وجود لنزوة، أو لم تكنْ هي المقصودة من الجنس. سعادته هنا لا تنبع من آنطفائه الجنسي، بل من يقينه"من سعة روحها وعطفها". يقول الراوية:"وكأنني ألقي حجراً في بئر صحراوية فأسمع صوت مياه هناك".

البئر الصحراوية، وبالأخصّ صداه، صورتان لهما وقع تأريخي، قادم من بطون الكتب.

مهما دار الأمر، يمهّد الراوية بهذه الوشائج التاريخية، إلى ماسيستنبطه من مفهومات خاصّة بشأن الماضي، الذي يقول عنه، إنّه:"حساسية مفرطة، مستعدّ أبداً لتعزيز حضوره الحاسم كاستدارة كلية لا يشكّل الحاضر أو المستقبل فيها إلاّ خطوات متردّدة في نقاط التماس...لهذا تبدو كلّ الأناشيد والشعارات للمستقبل وهي تتضمن أمراً للحجْر على الذاكرة واعتقال الآلتفاتة الحانية للوراء شاحبة ومتقطّعة الأنفاس...إنّ سطوة الاحتلال، سطوة الفرد الزائل، سطوة الحرب، تجرّد حاضر الناس من ماضيها وتشحنه بالمستقبل...".

لم يكُنْ آهتمام الراوية في الصفحات الأولى بالماضي، إلاّ آنشغافاً شخصيّاً، ولكنْ في المقطع الذي آقتبسناه أعلاه، يظهر بوضوح، أنّه بات موقفاً فلسفيّاً وأيدولوجية. كيف حدث هذا التطور؟ هل مردّه العيش في بيئة غريبة وأكثر تطوّراً؟

عند هذه المرحلة، تصبح الفتاة الإيطالية بمثابة كتاب مستغلق على ماضيه، كما حقيبته مستغلقة على محتوياتها. ربّما من جرّاء هذا الاستغلاق، تتداعى الأفكار إلى ذلك البعثي الحزبي، الذي آختطف كيس النايلون، من يد راوية القصّة، وفيها كتب مستعارة، فدار الحوار التالي بينهما:

ـــ لِمَنْ تكتب؟

ـــ أكتب بحثاً للا أحد

ـــ مَنْ يكتبْ للا أحد، لا فضلَ له على أحد

ثُمّ أصبح الحوار أحاديّاً يديره الحزبي فقط:

ـــ هذا الوطن له فضل على كلّ أحد. على كلّ مخلوق يدبّ تحت أفقه، ويتنفّس هواءه. كلّ أحد مدين لهذا الوطن. 

ـــ أين الآعتراف بالجميل فيما تكتب؟

ـــ الثورة التي لم تلْهمْك الكتابة علّمتنا الفعل. علّمتنا المستقبل.

ـــ ستصلك قسيمة الآنتماء (إلى حزب البعث). إنّها آمتحان دون شكّ. ولك أنْ تفعل بها ما تشاء".

عادت مدينة النحاس تشغل ذاكرة الراوية، ولا سيّما بعد زيارته للمكتبة الأهلية بباريس، وبوّابتها ذات الجلال الذي هو أشبه "بجلال روماني شديد المهابة"، حتى كأنّ الدخول إلى المكتبة من هذه البوابة، إنّما هو دخول إلى التأريخ عبر رائحة الخشب والورق.

طلب الراوية مخطوطتيْ "مروج الذهب"، فجاءتاه على عربة صغيرة، وهما مجموعة من المجلدات."

يقول الراوية:"اندفعتُ، قبل أن تلمس مؤخّرتي مقعد الكرسي، بتقليب الأوراق الثقيلة "لكتاب المروج..."

لا ريب، إن تقليب الأوراق قبل الجلوس على الكرسي يدلّ أوّلاً على عِظَمِ لهفة الراوية، وثانياً وهو الأهم يضفي مصداقية على الحدث، وكأنّه وقع فعْلاً. حتى تعبير "الأوراق الثقيلة" تدلل على واقعية ملموسة.

لم يعثرْ على مدينة النحاس في المخطوطتين. "قاربتُ الصفحتيْن من النسختيْن المتجاورتيْن"،"نصف الصفحة ذاتها بيضاء وقد عبثت بها يدٌ جانية عبثاً لا رحمة فيه".

يعود راوية القصّة إلى غرفته "محتضناً آثار الدفء التي خلّفته الفتاة الإيطالية، منذ فترة ليست طويلة على ما يبدو".