الأغتراب الثقافي في العراق وأثره في المنجز الإبداعي

Sunday 9th of June 2019 06:46:53 PM ,
العدد : 4445
الصفحة : آراء وأفكار ,

د.قاسم حسين صالح

تقتضي المنهجية العلمية تحديد ثلاثة مفاهيم( الأغتراب ، الثقافة ، الأبداع) ليكون لدينا فهم مشترك بخصوص واحدة من أخطر إشكاليات الدولة والمجتمع والفرد..ولنبدأ بالأغتراب في خمسة تعريفات لمفكرين كبار يختلفون ايديولوجياً.

- الأغتراب هو انفصال أو تنافر ينشأ بين الفرد والبيئة الأجتماعية( هيجل).

- هو تلك الحالة التي لا يشعر فيها الإنسان بأنه المالك الحقيقي لثرواته وطاقاته، وخضوعه لقوى خارجية لا تمت له بصلة (إريك فروم)

- الأغتراب عن الذات أمر ناجم عن ظروف الحياة المعاشة في عالم يتسم بالعبثية واللامعنى (سارتر)

- الحضارة هي مصدر الأغتراب مع أن الإنسان هو الذي أسسها دفاعا عن ذاته إزاء عدوان الطبيعة فجاءت على نحو يتعارض وتحقيق أهدافه ورغباته(فرويد)

- الأغتراب ناجم عن انفصال الإنسان عن الطبيعة عن طريق العمل والأنتاج ، ومع ازدياد قدرته في السيطرة عليها فأنه يواجه نفسه كشخص غريب محاطاً بأشياء هي من نتاج عمله ومع ذلك تتخطي حدود سيطرته وتكتسب قوة متزايدة(ماركس).

وكان روسو أول من استخدم تعبير (الغربة)حين رأى بعض النواب لا يمثلون الشعب، فوصف الهيأة النيابية بأنها أداة حكم وليس أداة للتعبير عن الأرادة العامة، وأن مجلس النواب (لا يمثلون الشعب ولا يمكن أن يمثلوه، وأن السيادة لا تمارس بالأنابة). وفي مؤلفاته (اللامنتمي، ما بعد اللامنتمي، سقوط الحضارة) توصل ممثل الوجودية الجديدة، كولن ولسن، من تحليله لأعمال كتّاب وفنانين معروفين (ويلز، كامو، سارتر، فان كوخ، دستيوفسكي..) الى ان حالة الغربة التي عاشوها كانت بسبب وقوفهم ضد المجتمع ومن أجله.

وفيما يخص (الثقافة) سنعتمد تعريف منظمة اليونسكو بأنها(مجموعة من الخصائص الروحية والمادية والفكرية والأنفعالية المميزة لمجتمع او جماعة وتشمل الفن والأدب وأساليب الحياة وطرائق العيش والمنظومات القيمية والتقاليد والمعتقدات).ونضيف بأن الثقافة تعمل على تزويد الأفراد بأساليب التعامل فيما بينهم، وتمدهم بالوسائل التي تمكنهم من حل مشاكلهم وتأمين حاجاتهم..ما يعني إنها ليست ترفاً أو ممارسة هواية لذاتها بل إنها أرقى وسيلة إنسانية لحفظ بقاء الجنس البشري.

أما الأبداع ، الذي له أكثر من عشرين تعريفاً، فنوجزه بأنه عملية عقلية ينتج عنها عمل جديد من شخص يتحسس نواقص وفجوات ومشكلات مجتمعه، ويقدم معالجات تستهدف جعل حياة الناس أمتع وأجمل.

 

مفارقة عكس المنطق

أن لا تكون للمبدعين مكانة في الزمن الدكتاتوري فتلك مسألة مفهومة، ولكن أن تتراجع مكانتهم في الزمن الديمقراطي فتلك مفارقة لا تحدث إلا في العراق.

ذلك أن النظام الدكتاتوري يرغم العقل المبدع على خدمته. ولأن شخصية المبدع تنفر من الاتجاه التلسطي فأنه إما أن يستجيب دفعاً للشر، أو يعيش حالة اغتراب عن نفسه والوطن قد تدفع به الى الانتحار، أو يهاجر الى بلد يحترم شخصه ويقدّر إبداعه. ومن يتأمل واقع العقول العراقية المهاجرة يجد انها أنشأت جامعات وكليات في دول عربية (الخليج، اليمن، ليبيا، الجزائر..)، وأسهمت في تطوير دول أوروبية، وقدمت لمجتمعاتها خدمات تتطلب إبداعاً(الأطباء العراقيون في بريطانيا مثالاً).فأنت حيثما ولّيت وجهك في بلدان العالم تجد العقل العراقي المبدع أمامك..في كل مجالات المعرفة من الطب الى الشعر والفنون التشكيلية والفكر الإنساني..ولك أن تفترض لو أنك عدت بنصفهم الى العراق، وخصصت لهم محافظة(ميسان مثلاً) لخلقوا منها..جنّة.

والمؤسف إن ديمقراطيتنا فشلت ليس فقط في تهيئة الأجواء لعودة المبدعين، بل أن الموجودين منهم داخل الوطن صاروا بين مَن أخمد صوته كاتم صوت، أو من اختار أن يجاهر بالحقيقة حاملاً كفنه على يديه، أو من سار على خطى المهاجرين من قبله.وإنها (ديمقراطيتنا) أوصلت المثقف العراقي إلى أن يعيش أكثر من محنة أوجعها اثنتان:إدراكه بأنه أصبح فاقد القدرة وعاجز عن تحقيق منجز إبداعي، وإحساسه باللامعنى الناجم من رؤيته للأحداث بأنها تسير على نحو غير منطقي وغير معقول، وأن حياته أصبحت تافهة ولا جدوى من الاستمرار فيها. 

الباحث المتابع لما حصل بعد (2003)يجد أن المنجز الأبداعي قد تعطّل بالعراق في مجالات المعرفة العلمية والانسانية والآداب والفنون، باستثناء اربع او خمس روايات حظيت بتكريم عربي وليس عراقي، فيما الباقي من المبدعين تراجعت مكانتهم الوظيفية.فمعظم المراكز الوظيفية الرئيسة بمؤسسات الدولة تسند لا على أساس الكفاءة العقلية بل الانتماء الحزبي، لأن أحزاب الاسلام السياسي تفّضل حامل دبلوم معهد من اهل الثقة على خبير دولي حامل دكتوراه في الاقتصاد. وهذه حقيقة واقعة تؤكد( صعود أقارب المسؤولين الكبار، وأغلبهم بلا كفاءات، الى شبكات إدارات الدولة التي تتحكم برقاب ومعيشة ومصائر الناس..بتعبير الكاتب عبد المنعم الأعسم) ، وأنه(تم استبدال نظام العائلة الواحدة بنظام العوائل المتعددة واستبدلنا القائد الأوحد بعشرات القادة..بتعبير الدكتور محمد فلحي)، وإن الدولة تبنى على مؤسسات رصينة حسب الكفاءة والمهنية فيما واقع الحال يؤكد بأنه (توجد لدينا حكومة بلا دولة هدفها الاستيلاء والمصلحة الخاصة وتهميش الخبرات..بتعبير الإعلامي جاسم فرج).

إن استبعاد المبدعين المستقلين من السلطة التنفيذية كان أحد أهم أسباب خراب الوطن وفقر الناس وتضاعف حالات الانتحار والطلاق والتفكك الأسري، وهو السبب الرئيس وراء سوء الأدارة وشيوع الفساد بأنواعه الثلاثة السياسي والمالي والأداري بحالة تثير الخجل أن يحتل العراق الديمقراطي! الأسلامي!! المراتب الأولى بالفساد بحسب منظمة الشفافية العالمية.

والمشكلة، إن المسؤولين لا يدركون أن الإبداع صار اليوم هو المعيار لتقدم المجتمعات وتفوق الدول، وأن الدولة الأكثر احتراماً لمبدعيها وتوفيراً لفرص توظيف إبداعهم بخدمة المجتمع، هي الأكثر تطوراً وتحقيقاً لحياة كريمة لمواطنيها. وما يحيرك أن تراجع مكانة المبدعين في زمن الدكتاتورية كان أحد أسباب انهيارها، وأن الديمقراطية التوافقية لا تلتقط العبرة ولا تدرك ان المبدعين في العراق طاقة هائلة في إعمار الوطن وتطوير العقول..بل إن النظام الديمقراطي تقصّد التضييق عليهم فهاجروا أو استكانوا ليخلو الجو لأشخاص اعتبروا العراق غنيمة لهم فانشغلوا بتقاسم ثرواته وخلق الأزمات لألهاء الناس..مصحوبة بحقيقة سيكولوجية (خفية) هي إن قادة أحزاب السلطة يدركون يقيناً إنهم إذا منحوا الفرصة للمبدعين فأنهم سيشيعون الوعي الثقافي بين الناس ويحققون لهم حياة كريمة في وطن يمتلك كل مقومات الرفاهية لأهله..فيفقدهم أهم وسيلتين تضمنان بقاء الطغاة والحكام الفاشلين..الجهل والفقر.