بالأبيض والأسود.. وثائقي عن عراق الستينيات ومابعدها

Wednesday 19th of June 2019 07:00:42 PM ,
العدد : 4453
الصفحة : سينما ,

ماس القيسي

منذ الستينيات، والعراق يمر بأحداث متضاربة شهد فيها المجتمع العراقي تحديات كبيرة، وعاصر مختلف الحقبات بدءاً بالفترة الذهبية، التي كانت تزهو بالفن والثقافة والفكر والتعليم والاستقرار الاقتصادي والأمني،

ثم الفترة الرمادية كما يصح أن نسميها في عقد الثمانينيات، التي أدخلت المواطن في ويلات حروب ونزاعات وصراعات سياسية مع دول الجوار، وعقوبات اقتصادية دولية جثمت على صدور الناس وحطمت أحلامهم وآمالهم الوردية في مواكبة المدنية والحضارة الإنسانية، حتى وصل أخيراً الى الحقبة السوداء حين سقطت أعرق مدن التاريخ على يد المحتل، وقُلبت عندها الموازين حيث أبواب الوطن مشرعة أمام الجميع ليعيثوا خراباً وفساداً اينما وطئت أقدامهم . هي مرحلة انهيار تهاوى على إثرها كل شيء من بنى تحتية ومؤسسات خدمية وثقافة اجتماعية، وصولاً الى تدني الذائقة الفنية، حتى مرحلة التعافي المضطربة ومحاولة النهوض في يومنا هذا.

 

فيلم وثائقي اجتماعي تاريخي قيد الإنجاز، في مراحله الأخيرة يعرض حقبات عراقية متفاوتة كان لابد من توثيقها وأرشفتها، لتنقل فيما بعد الى الشارع العراقي والعربي والعالمي بعدسات أشخاص ذوي مهارة عالية، أذ يقول أيمن العامري، مؤلف ومخرج الفيلم :" أكملنا 70% من العمل وقريباً سوف نبدأ بآخر مرحلة وهي المونتاج. أحاول توثيق الحقبات الزمنية التي مرّت بالعراق، من خلال عدسات فوتوغرافيين وثّقوا الحالات النفسية والشعور العام للناس في أزمان مختلفة ". مؤكداً على أن هذا الفيلم يعد صورة حقيقية عن العراق الى العالم بقوله : "هذا الفيلم بالنسبة لغير العراقيين هو عرض موثق لتلك المرحلة التي مر بها البلد بدون تزييف وفبركة وبنظرة حيادية غير مؤدلجة".

لقطات حية شفافة وموضوعية، تقول في طيّاتها الكثير ما يعيد المواطن العراقي الذي ينتمي لأواسط القرن المنصرم، بذاكرته الى الأبيض والأسود، حيث ماضٍ ما يلبث أن يفارِق مخيلته، كما يصفها أيمن قائلاً :" بالنسبة الى الأجيال السابقة التي عاصرت هذه الأحداث فإن الفيلم سيعود بهم الى تلك اللحظات السعيدة والحزينة، التي عاشوها كنوع من النوستالجيا". التقطت تلك الصور بعدسة المصور (فؤاد شاكر)، الذي يُعد شيخ مصوريّ العراق، مصوراً بلاده على مدى ثلاثة عقود منذ بداية الستينيات حتى بداية الحرب العراقیة الایرانیة في الثمانينيات، الحرب التي وثقها الفنان الفوتوغرافي (هادي النجار) كجندي مكلف يقاتل في جبهات المعركة خلال ظروف الرقابة الأمنية على فن التصوير آنذاك.

صور ولقطات أخرى شهدت ولادة جيل عاصر نهاية حلم جميل وبداية انهيار وطن، جيل مازال ينازع حداثة مصطنعة متمسكاً بماضيه الأصيل. يعقب أيمن :" هذا التوثيق مهم في رأيي للذاكرة الجمعيّة وللأجيال القادمة خصوصاَ الشباب، محاولة مني لنسج شبكة متماسكة تتواصل من خلالها أجيال لم تعرف الثورات والمجتمع قبل وبعد الحروب والحصار. يساعد ذلك على فهم الأجيال السابقة وفهم معاناتهم، علاوة على المعرفة التي ستبني صوراً ذهنية متكاملة للتاريخ الذي سبقهم، مما يعزز إدراكهم ومعرفتهم الذاتية والاستفادة من تجربة أسلافهم. إن الماضي يعلم التجارب ويمنع حدوثها في المستقبل." 

مرحلة مابعد 2003 وِثّقت أحداثها بعدسة (زياد تركي)، الفنان الفوتوغرافي الذي أصرّ على تبني لوني الأسود والأبيض في أغلب صوره، رغم تغير الزمن واستخدام التقنيات الحديثة ليجاري التدهور الفني الحاصل في كل مجالات الفنون، يدعم ذلك أيمن بقوله:" ما يدفعني ويحفزني لصناعة هذا الوثائقي هو محاولتي لتوثيق ما تم إنتاجه منذ الستينيات حتى الآن في فن الفوتوغرافي على يد فنانين متميزين ورواد لهذا الفن، حيث وثّقوا الحياة العراقية بزاوية نظرمختلفة ذات ذوق فني رفيع، بدأت ملامحه بالاندثار في الوقت الحالي ليس في مجال الفن وحسب، وإنما انحسار الذوق العام في كل شيء". 

أيمن العامري مصور فوتوغرافي متخصص بالأفلام السينمائية والوثائقية من مواليد بغداد، حصل على دبلوم معهد الفنون الجميلة قسم الفنون السینمائیة والتلفزیون. قام بإخراج عدد من الأفلام الروائية القصيرة و الوثائقیة. أعماله ذائعة الصیت شاركت بالعدید من المعارض الفنیة العالمیة وحصلت أعماله على جوائز عالمیة. شاركت أعماله الفوتوغرافیة في مهرجان آرت 16 في لندن عام 2016وكذلك المعرض العراقي- البرتغالي لعام 2013 بعنوان "رسالة حب من البرتغال الى العراق". كما نشرت أعماله الفوتوغرافية في الكتالوج الرسمي في الجناح العراقي في البندقية ،بينالي عام 2013, 2015 ،2017 كذلك في brainbook Magazine , WTD Magazine. حصدت الأفلام التي قام بتصويرها على جوائز رفيعة في مهرجانات تریبیكا في نیویورك عام 2013 , 2014، ومهرجان مالمو في السويد 2014، مهرجان شارلوت في نیویورك 2015 ومهرجان فان كوخ في هولندا 2015. 

فلم (بالأبيض والأسود) الذي لايزال قيد العمل، أخرجه أيمن وشارك في كتابة السيناريو مع زميله (ياسر كريم)، ويقول في هذا الصدد :" حصل مشروع الفيلم على منحة سبوتلايت العراق من معهد غوتة الألماني،وهي التي ساعدتني كثيراً في اكمال المشروع بعدما كانت تكاليف المشروع من حسابي الشخصي، كذلك منحتني مؤسسة مدينة الفن للسينما والتلفزيون معدات للتصوير مما دفعني لإكماله". عن المدة الزمنية التي استغرقها إنجاز المشروع يقول أيمن :" بدأت التحضير لمشروعي منذ بداية عام ٢٠١٣ حتى مطلع عام ٢٠١٤ (مرحلة البحث والدراسة)، وثم بدأت المشروع فعلياً بالتصوير مع فؤاد شاكر وهو أول شخصية لي في الفيلم، لكن ما حدث لاحقاً هو صدمتي بوفاته، هذا أثّر سلباً على نفسيتي و على الفيلم في البداية، و جعلني أتوقف ولكن ذاكرتي الشخصية له دفعتني مرة أخرى للوقوف واستكمال المشروع حتى وإن بعد حين". أما عن المهرجانات التي يطمح أيمن لعرض فيلمه لديها يقول:" بالتأكيد كصانع أفلام شاب أطمح أن يكون مكان لفيلمي بين أعرق المهرجانات و المنافسة مع أفلام مهمة، مثل ,Venice Sundance، IDFA، وHOT Docs، لكن مازال الوقت مبكر للحديث بهذا الموضوع، تركيزي الآن حول إكمال صناعة الفيلم".

رسالة يود أن يوجهها أيمن ورفيقه من خلال فلمه الوثائقي الى الجمهور العراقي، بمختلف فئاته العمرية وتوجهاته الثقافية فيقول :" أحاول استفزاز ذاكرة الناس العتيقة والجميلة المرتبطة بالصورة ذات اللون الأسود والأبيض، التي يحتفظون بها في ألبوماتهم الشخصية وهي تبعث الحنين والسعادة كلما فتحوها. الصور الفوتوغرافية التي أود عرضها في الفيلم بعضها تم عرضه والآخر يظهر لأول مرة ويوثق مرحلة مهمة جداً كان المصورون يحتفظون بها لأسباب سياسية واجتماعية منعتهم من نشرها حتى الآن". مؤكداً على ضرورة أن ينتبه الناس الى ماضيهم وما آل إليه حاضرهم " إن هذه الصور تحوي على الأصالة والذوق والذاكرة والمعالم والمعاناة والألم والفاجعة، وكل اللحظات السعيدة والتعيسة، أملاً بأن تستفز ذاكرة الناس لإحياء الجمال في مخيلتهم، ودفعهم الى إعادة خلقه، وكذلك لتذكر ماضي الحروب والمعاناة كي يطمحوا لحياة أفضل، بسلام لا تعاد فيه المرارة مرة أخرى وإنما الإيمان بأن الوقت حان لمراجعة الذات، بعد قرابة عشرين عاماً على التغيير".

وفيما يخص تطلعات ايمن المستقبلية ومدى نجاح صناعة الافلام الوثائقية في العراق ختم ايمن حديثه قائلا:" لم يعد الفلم الوثائقي مجرد عمل فني ينتجه مخرجين السينما فقط. بل أصبح وسيلة لاكتشاف قصص العالم، والدفاع عن القضايا التي نؤمن بها، ومخاطبة الرأي العام ومحاولة التأثير فيه. إن صناعة الأفلام الوثائقية أصبحت الصناعة الأكثر رواجاً في عالم اليوم، بسبب قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على الترويج لأفلامنا، وإيصالها للرأي العام مهما كانت محاولاتنا بسيطة في بداياتها".