الفنان التشكيلي حميد شريف والجذر الأثري

Saturday 22nd of June 2019 08:04:20 PM ,
العدد : 4454
الصفحة : عام ,

علي النجار

إن الحياة ثلاث مراحل: اعتقادك بأنك تغير الدنيا، إيمانك بأنك لن تغير الدنيا، وتأكد من أن الدنيا قد غيرتك (جان بول سارتر)

للفنان حميد شريف تصور خاص لا يحيد عنه، هو علاقته الحميمة(التي يعتبرها أخلاقية بالدرجة الأولى) التي لا تنفصم بعمله الفني والطويلة الأمد. وهذا ما يحدث خرقاً بالنسبة لفن اليوم الذي يسعى لتشظي الموضوعة والمادة ومصادر بنيتها المعرفية(وليست الالهامية). ليس الأمر غريباً بالنسبة لفنانا، ما دام لا يود الانفصال عن جذره المكاني الأول، مدينة كركوك وقلعتها بجدرانها العتيقة. فهل بات حميد عتيقاً أم ماذا. إن كان عن العتق(من العتيق)، فهو لا يني ملتصقاً بمفصل واحد منه ولا يحيد عنه. هو صدق انتمائه لفضيلة كون الحقيقة واحدة لا تتجزأ. والحقيقة عنده تكمن في اخلاصه وتفانيه لجذر انتمائه الجغرافي، ذك الجذر المديني المسيج بمساحات جدرانه التي حفر التاريخ حزوزها أو علاماتها حيوات انسانية مندرسة، وأخرى متجددة.

ربما هي الذكريات العصية على الإنمحاء، ربما هو الحنين في اعلى صوره لدراما المكان الأزل. ما دام المكان(وهو هنا مفقود ولعدة عقود)، ربما هو الأثر النفسي القاسي الذي خلفه ذك الزمن الغادر، والذي غادره. ربما هي الظروف القاسية التي خاض تجربتها كمتهم افتراضي سياسي، لا دخل له أصلا في حيثيات الاتهام. ربما هو المكان سكنا لم يعد غابرا ما زال يحتل مساحته المعمارية داخل عمارته الذاتية. أخيراً ربما كل هذه وأكثر مما خفي عليه أو علينا. وأعتقد أن هذا الخفاء شكل عقدة شخصيته التي لا تحل إلا في محاولة استقرائها بوحاً على سطح رسوماته. البوح بما هو خفي هو سر ديمومتها. فالعلن دائما ما يرفل بوقائعه الواضحة التي من الممكن التعايش معها. لكن أن يسكنك شبح هو ماضي مغرق في بيئته المأساوية. فذلك يتطلب منك جلاء، ربما يمر بمسالك غامضة قبل أن يقبض على جمرته. وهكذا هي العملية الفنية عند حميد لا تكشف تفاصيلها مباشرة، بعد كل هذا الدثار الذي نحسبه ملغزا، رغم وضوح مرجعيته الالهامية. خفاء يمارس سطوته على سطوح أعماله معماراً موازياً، مكتظاً بتفاصيله من الإطار الى الإطار، إلا ما ندر. فغالباً ليس هناك متسع لفضاء، أو استراحة ضمن هذه الخارطة المعمارية المستوية. كيف لا وهي محملة بكل ارثه الشخصي القابض على جذوة فعله الفني.

تبدو أعمال حميد شريف سهلة التناول في ظاهراها. لكنها وكما أعتقد نابعة من وضوح الرؤيا لديه. ما دام لا يود المغامرة أو المخاطرة بالابتعاد عن همه الشخصي(الذي يعتبره صدقه الفني). لقد حصر بحثه في التجريب ضمن منطقة الأثر الأقرب الى نفسه، للحد الذي باتت حتى شخوصه أو مخلوقته الحيوانية جزء لا يتجزأ من فسيفساء مساحة أعماله المعمارية، رغم لعبه على توزيع الفراغات السطحية، وغلبة هذه الفراغات على بعض أعماله عزلاً لكتلا تقبض على مشخصاته، أو تعزلها من أجل إضفاء وضوح أكثر. فالفراغ في أعماله غالباً ما يكون ممغنطاً بخطوط تماس خرائط مصائر متوحدة في قدرها الثابت أو الآيل للزوال. مما يؤكد أن هناك ديالوك مكاني مضمر هو الغالب والممتد الى ما لا نهاية، بشكل خاص في أعماله الأكبر قياساً. ديالوك أزقة مدن هجرها أناسها، أو حتى ما تبقى منهم، في طريقهم للمغادرة، وكما فعل الفنان مبكراً.

بالتأكيد هناك تنوعات في أداءات أعمال حميد، لكنها وكما أعتقد تنوعات محكومة بضوابط وضعها الفنان نفسه، كي لا يحيد عن موضوعته الرئيسة التي اعتقدها تمثل أيضا(الهجر) وهو أصلا مقيم في المهجر. وأنا اشاهد أعماله معروضة أمامي لأول مرة أخذتني وحشة غريبة، وحشة جربناها نحن المهاجرين الاضطراريين. حيث طرقات هجراتنا فقدت بريقها البيئي الشمالي(غالبا) لتتحول على سعتها الى منافذ ملغومة بهاجس الفقد، الموت، الاصطياد، ولا مجال للارتداد. هي بالنسبة لنا، كما بالنسبة له، نشعرها في داخلنا كأنها مسطحات مرقمة مرصودة، كما جداول أو خرائط الرصد الجوي لأهداف قاذفات القنابل. وهذا ما تؤكده ملونة أعمال حميد أيضاً بألوانها المؤكسدة أو القريبة من ملونة البيئة الطاغية على سطح غالبية رسوماته.

ليس الحجر، كما هو حجر صلب، وليست البسيطة على الضد من ذلك هشة. في اعماله تبدو الأدوار متقاطعة. فالصلابة التي تمس سطحها، غالبا ما تتفتت بفعل التقادم(الهجر). أو هي تحافظ على روحها الصلبة كائنات متحجرة. لقد فقد الزمن سيولته وبات ثقلا .. صلبا، لا يتزحزح. لقد فقدت(قلعة كركوك)، عنده، كيانها، لصالح موقعها الطوبوغرافية احجار مندرسة. كما مدن الهجرة، رغم كل جمالياتها، وبات لديه إرث نوستولاجي ملغوم بشوائب زمنية. وقلعة كركوك، كما جسور مدينة اغترابه(فلورنس) ليست مجرد مكاناً مدنياً له ثقله الزمني، بل العاطفي حيث أزقتها تقود لسماء معقودة هي الأخرى من حجر. فهل بات الحجر ثقافة استحوذت على ذهن فنان لحد إمساك الرؤية وتجميدها عند حد هذا الأفق البيئي الأكثر صلابة التي تهيم عليه أحياناً سماء من رصاص.

أنا لا أدري إن كان الفنان استساغ اقامته ضمن هذا الحد البيئي. أم هي المحنة الأولى التي خبرها قبل أكثر من ثلاثة عقود من جعلته لا يغادرها، حاله حال الكثير من مجايليه من عراقي ذك الزمان. فان كانت نستولوجياً، فاعتقدها عامة عند غالبية الفنانين المهاجرين (قسرا). لكن أن تصبح هذه النستولوجيا مشروعاً ممتداً لعدة أعوام، موغلة في ذاتها لهذا الحد. فالأمر هنا يستدعي دراسة خاصة، ربما تشكل أعماله الفنية إحدى منافذها ، أو هي كذلك. بما يعني أن حميد يصلح ان يكون نموذج فني متفرد في هذه الخاصية. وكما لاحظت من رقة حاشيته الإنسانية التي تبين في فرط انفعالاته لأي مشهد حياتي، ولو على قدر ضئيل من الإيلام. وعالمنا الحالي، كما معلوم، لا يعير وزنا لهكذا مشاهد. بل على العكس يعيد صياغتها لتكون أكثر إيلاماً، ولتتحول بالتدريج، ولشيوعها، لمجرد تسلية لا أكثر. فهل بات حميد ينتسب للسلالة الإنسانية الأخيرة، التي تحمل قيماً أخلاقية(عاطفية) مغايرة مألوفة لزمننا. أم هو ابن تربته التي لا يزال يحمل تضاريسها بين جنبيه. ربما تجيب عن ذلك تفاصيل رسومه المتناسلة، كما خلية نحل، كل لها موقعها الذي يكمل ما قبلها، أو ما بعدها.