سينما المنافي وقصص العابرين إلى المجهول..قتيبة الجنابي: أفلامي ذاكرة للمنفيين

Wednesday 3rd of July 2019 06:57:56 PM ,
العدد : 4463
الصفحة : سينما ,

حوار: أحمد ثامر جهاد

2-2

قتيبة الجنابي مخرج عراقي من مواليد بغداد. درس التصوير الفوتوغرافي والسينمائي في أكاديمية الفنون الهنغارية وحصل على شهادة دكتوراه في موضوع رحلة السينما العربية.

عمل في التلفزيون الهنغاري لسنوات عدة ويعيش متنقلاً بين بغداد ولندن وبودابست. كما عمل مخرجاً لسلسة أفلام تسجيلية لمحطة "الأم بي سي" وصور مجموعة من الافلام التسجيلية لدار الاوبرا البريطانية. عمل مدير تصوير لسبعة أفلام روائية طويلة بين لندن وباريس. كما أنتج وأخرج مجموعة من الأفلام التسجيلية القصيرة والمستقلة نال بعضها جوائز في مهرجانات وتلفزيونات حول العالم. في الغضون أقام معارض فوتوغرافية وله كتابان فوتوغرافيان- بعيداً عن بغداد وأضواء أجنبية. حصل عمله الروائي الاول (الرحيل من بغداد) على الجائزة الأولى في مهرجان الخليج السينمائي وجائزة مهرجان مونتي كارلو، ورشح لجائزة السلام في برلين، كذلك اختير كأفضل فيلم بريطاني مستقل لعام 2011. انجز فيلمه الروائي التسجيلي الثاني(قصص العابرين)والذي صورة طوال 30 عاما. مشروعه الروائي الأخير (رجل الخشب) أصبح في غرفة المونتاج الآن لإتمام اللمسات الأخيرة عليه بعد حصوله على دعم من مهرجان القاهرة في دورته الأربعين.

 ثمة شاعرية بينة في مشاهدك السينمائية تثري المعنى وتعزز دلالات الصورة، تذكرنا الى حد ما بأجواء تاركوفسكي وترنس مالك، لقطات تحكي بالصوت واللون والصورة أكثر من أي شيء آخر،(نوافذ مشرعة في منازل مهجورة، قطارات متروكة وسكك حديد موحشة، إرجوحة فارغة وصفير ريح، كومة مفاتيح صدئة، صور أشخاص مغيبين ورجال مسنين بوجوه يائسة...) كيف تتراءى لك هذه الصور وما الذي يمثله أسلوب وصل اللقطات /اللوحات خارج خط السرد الدرامي او عبر تدميره؟

- لا أعرف إجابة نموذجية عن سؤالك. لكن استطيع القول إنني لا افتعل هذه الأشياء ولا اصطنع الصور، كل اللقطات والمشاهد تأتي في لحظات نفسية معينة لا اعرف بالضبط من أين، لكنها تداهمني وتدفعني لحمل كاميرتي وتجسيد ما أراه، أسوة بالشاعر الذي يطارد القصيدة. احيانا تتدفق الأحاسيس من لوعة الانتظار ومن البحث عن طريق آمن للعودة الى المكان الاول. ويمكن لها ان تأتي من مخزوننا التراجيدي العراقي من حقب الاحزان والاوجاع التي مررنا بها. إن تراجيديا الحسين ومأساة كلكامش وخيبات الاباء والابناء في متاهة السنوات العجاف والسواد الدائم الذي تتدثر بها امهاتنا كلها صور حية تسكن مخيلتي بشكل أبدي. وليس بدرجة أقل تركت سنوات الحروب والاستبداد بصماتها الغائرة في وجدان جيلنا وذاكرته. هروبنا من العراق لم يكن اختيارياً. كان حلاً قاسياً علينا جميعا. الثلج والمحطات الموحشة والقطارات وغرف الفنادق الوضيعة وشرطة الحدود ووثائق التنقل غير الرسمية بين البلدان وشحة أخبار الوطن، حفزتني للبحث عن عزاء روحي، عن ضرورة مشاركة همومنا مع الآخر. في هذه المناخات ولدت مفردات افلامي السينمائية التي افادت كثيرا من خبرتي في مجال التصوير الفوتوغرافي. أحد النقاد الاوربيين وأسمه" بيتر بال" وهو رئيس تحرير مجلة فوتوغراف الهنغارية كتب يوما ما في دليل معرضي الفوتوغرافي الاول "آنت مثل شاعر فوتوغرافي يبحث عن زوايا مدينته بغداد في بلدنا" 

اما بخصوص تأثري بإنجازات العظيم تلركوفسكي والشاعر السينمائي ترنس مالك فليس لي ان اقول سوى انني تعلمت الكثير منهم وتفاعلت مع تجاربهم الابداعية، واظن ان قيمة الفن الحقة هي في انه عابر للحدود ومنفتح على تجارب الاخرين اينما كانوا.

 كيف تصف علاقتك بالسينما العراقية منذ انطلاقها وحتى العام 2003 ، هل تركت أثرها على أفلامك وما هي أبرز التجارب التي أثرت بك؟

- في السنوات الأولى التي شهدت نضج وعينا وشغفنا بالسينما كان هنالك نوع من التداخل بين المحلي والعربي والعالمي، فنحن منحازون للجودة وخاضعين لتأثير الأفلام المميزة بغض النظر عن هويتها. فلا احد ينكر حجم تأثير السينما المصرية علينا كشباب سينمائي طموح وذلك لقربها من نمط حياتنا وهمومنا وأحلامنا، رغم ذلك كان للفيلم العراقي نكهته الخاصة التي جعلته أقرب لذائقتنا ووجداننا وان كان شحيحا في الانتاج مقارنة بسينمات اخرى. اتذكر جيدا الدعايات الاولى في التلفزيون والسينما لفيلم (الظامئون) بهاء الصورة وجمالية اللون الأبيض والأسود لا تزال قابعة في ذاكرتي، فضلا عن تميز اداء ممثليه والموقع الجغرافي الساحر للتصوير. لقد كانت تجربة فريدة بالنسبة لي، لاسيما حينما شاهدته في إحدى سينمات بغداد. في ذاك الزمن كانت هناك أفلام واقعية حقاً وأخرى طليعية سباقة في معالجاتها لقضايا حساسة، منها فيلم (سعيد أفندي، الحارس، من المسؤول، وفيلم المنعطف عن رواية خمسة أصوات للروائي غائب طعمة فرمان) استطيع القول انني تأثرت مع العديد من ابناء جيلي بهذه الافلام وبمخرجيها بقدر تأثري بأفلام الواقعية الايطالية بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى نحو اكثر تحديدا بخواصها وآلية عملها، حيث الاكتفاء بميزانيات بسيطة والتصوير في مواقع الحدث، والاعتماد على ممثلين غير محترفين، وكوادر محلية تمتلك نوعا من العشق الشديد للإنجاز والمغامرة الابداعية. بالتأكيد هنالك أفلام عراقية اخرى تمتلك خصوصيتها وتميزها كان لها دور حاسم في توجيه اهتمامنا وصقل ذائقتنا السينمائية.

 بعد سنوات من الدراسة الاكاديمية داخل العراق وخارجه، أي التجارب السينمائية العربية والعالمية التي تجدها أقرب الى رؤيتك وأسلوبك السينمائي؟

- طوال ٤٠ سنة من الدراسة والعمل والمحاولة في عالم الصورة والفيلم استطيع القول انني تأثرت في مراحل مختلفة بأساليب وتجارب عديدة من العالم العربي، فقد كانت أفلام المخرج الراحل يوسف شاهين ملهمة لي بدرجة كبيرة، ولا يمكن تخطي تأثيرها ( باب الحديد، الأرض، العصفور وعودة الابن الضال) لأنها تمثل سينما الوعي المحفزة للتفكير بجماليات السينما وقضاياها. على صعيد مقارب اعجبت بأفلام المخرج توفيق صالح( يوميات نائب في الأرياف والمخدوعون) ولاحقا هيمنت على ذائقتنا تجارب جماعة السينما الجديدة التي خرجت عن التقاليد السائدة للفيلم العربي، اتذكر هنا فيلم (أغنية على الممر لعلي عبد الخالق، وزائر الفجر لممدوح شكري وكذلك فيلم الظلال في الجانب الآخر للمخرج غالب شعث) كما تأثرت بخصوصية تجربة السينمائي العراقي الموسوعي" قيس الزبيدي" صاحب الفيلم الروائي المتجدد "اليازرلي" الذي آنتج في دمشق. ثم تابعت تطورات السينما الجزائرية في نتاجاتها المتنوعة التي نالت التقدير والجوائز كفيلم (وقائع سنوات الجمر) للمخرج محمد الاخضر حامينا وأفلام مرزوق علوش والقائمة تطول. كما لا يمكن اغفال تأثير فيلم "بس يا بحر" للمخرج الكويتي خالد الصديق، فقد كان على المستوى الشخصي فيلما صادما ومبهرا في حينها. 

وفي سنوات لاحقة اخذتنا التقلبات السياسية وسنوات الحروب والدكتاتورية بعيدا عن واقعنا العربي. حيث ذهبت لدراسة فن الفوتوغراف والسينما في بودابست-هنغاريا وجرفتني الحياة والتأثيرات الجديدة الى مساحة سينمائية ومعرفية اخرى أغنت معرفتي ووسعت تطلعاتي. حينها عشقت الفيلم الهنغاري طوال سنوات اقامتي هناك وشيئا فشيئا أصبحت مساهماً ومتدرباً مع مخرجين هنغارين معروفين ومن خلالهم اقتربت اكثر من تجارب السينما السوفيتية آنذاك، إلا أن التأثير الأعمق كان على يد المخرج الالماني"فيم فيندرز" الصانع الأمهر لأفلام الطريق، لاسيما تحفته السينمائية "باريس تكساس". ولكي نكون منصفين من منا لم يتأثر بأقلام الواقعية الايطالية والموجة الجديدة في فرنسا وإبداعات السينما الايرانية والفيلم الاميركي المستقل. في الغضون دفعني عشقي لأدب ماركيز الى الاستغراق بمتابعة انجازات سينما امريكا اللاتينية، التي عالجت قضايا سياسية واجتماعية شديدة القرب من قضايانا العربية. كما أحببت بذات الشغف أفلام المخرج الهندي" ساتياجيت راي" لخصوصيتها الشديدة وصدقها وقوة شاعريتها. وفي أوروبا ثمة أفلام رائعة لسينمائيين مهاجرين أو متحدرين من أعراق مختلطة لها خصوصيتها وجمالها الآخاذ. إجمالاً مسلسل التأثيرات والتفاعل مع الآخر لا يمكن أن يتوقف. 

شيء آخر يمكن أن أكون قد عملت به في أفلامي هو اني خاطبت الوجدان الأوروبي بلغة أريد لها أن تكون متفردة وعالمية في نقل أحاسيسنا وقصصنا. كل هذا قادني لان ابحث عن التميز بصوري وافلامي. كنت أفكر أحياناً بكيفية الوصول بالمتلقي الذي يشاهد صوري وأفلامي الى معرفة هوية صاحب هذا العمل الفني. إنه برهان الروح العراقية في تخليق الموضوع والشكل وسيل الأحاسيس التي تشبه نظيراتها في أيما بقعة من هذا العالم. لن تكون صوري ولقطاتي معبرة ما لم يخفق قلبي لها في تلك اللحظة.

أسعى دوماً الى أن تضاف تجربتي هذه الى تجارب العراقيين الإبداعية في الداخل والخارج وتتوحد في سماء ثقافة عراقية موحدة.