عبد الكريم قاسم وحكّام الخضراء- مقاربة أخلاقية

Monday 8th of July 2019 08:56:14 PM ,
العدد : 4466
الصفحة : آراء وأفكار ,

د.قاسم حسين صالح

في سيكولوجيا الشخصية..يشعر الأنسان بالنقص حين يكون الآخر أفضل منه في صفة أو أكثر..وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة.

ولقد تابعت حكومات ما بعد التغيير (2003) فلم أجد رئيس حكومة أو رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير،بل إن حكّام الخضراء لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت،ولم يسجن فيه مئات الآلاف.والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوماً ولا يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من أجل شعبه..فلماذا؟!

إن اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال:(لأن نزاهته وسمو أخلاقه وخدمته لشعبه..تفضح فسادهم وانحطاط أخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع) .

نعم. قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي،ولك أن تدين شنّه الحرب على الكورد عام (61)،واستئثاره بالسلطة ،ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية،واصطناعه حزباً شيوعياً بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963).ولك أن تحمّله أيضاً مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة،وتصف حركته بأنها كانت انقلاباً وضعت العراق على سكة الأنقلابات.ولك أيضاً أن تتغاضى عن انصافه الفقراء وإطلاقه سراح المسجونين السياسيين وعودة المنفيين وفي مقدمتهم الملا مصطفى البرزاني الذي استقبله أهل البصرة بالأهازيج..ولكن،حتى أبغض أعدائه،لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية..وتردي الأخلاق،مع أن قادة النظام الحالي رجال دين،وإن رسالة النبي محمد كانت أخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) .

والحقيقة التي تسكن أعماق قلوب حكّام الخضراء إنهم يكرهون عبد الكريم قاسم،لأنه يمثل أنموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.فالرجل كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك،ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير أو وكيله أو مدير عام على اختلاس أو قبول رشوة أو التحايل على مقاولة.وما كان أهله أو أقرباؤه يحظون بامتيازات،فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي،وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم. وما كان للرجل قصر أو بيت لرئيس الجمهورية،بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع. ولقد منحه العراقيون لقب(ابو الفقراء)..لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية،ومدناً اخرى في البصرة وأكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية.

ولهذا فهم يخشون إحياء ذكراه لأن الناس ستعقد مقارنة بين ما صنعه من إعمار وبين ما صنعوه من دمار،وأخرى تخزيهم!. فمعظم الذين جاءوا بعد التغيير كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة،وصاروا يسكنون الآن في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية،وعزلوا أنفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت أحلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة،وأوصلتهم الى أقسى حالات الجزع والأسى..ولهذا فهم ينؤون عنه..لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم.

وحكّام الخضراء فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغاراً أمام فضائل عبد الكريم قاسم..اقبحها إن الفساد في زمنه كان عاراً فيما صيّره الطائفيون شطارة،وأصبح العراق في زمنهم أفسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!،وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة.وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم..لا ليقدموا خبرة هم أصلاً لا يمتلكونها،بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل أضعاف راتب استاذ جامعي..دكتور وبروفيسور..بلغ الستين!،فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة،ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في أغلب اختياراته..مثال ذلك:ابراهيم كبة (اقتصاد)،محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب(شؤون اجتماعية)...نزيهة الدليمي(بلديات)..وهي اول وزيرة في تاريخ العراق.واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تأسست في زمنه..الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله،برغم معارضة كثيرين،فيما اعتمد الطائفيون مبدأ الانتماء الى الحزب والطائفة في المواقع المهمة بالدولة وإن كان لا يمتلك كفاءة ولا خبرة ولا نزاهة.

وكان العراق في زمانه..دولة،فيما صار بزمن سادة الخضراء دويلات،بل إن كل وزارة في الحكومة هي دويلة لهذا المكون السياسي أو ذاك.وكان عبد الكريم محبّاً للعراق ومنتمياً له فقط،ولهذا كانت المواطنة،بوصفها قيمة أخلاقية، شائعة في زمنه بين العراقيين،فيما انهارت بزمن الطائفيين،وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن..وتلك أهم وأخطر قيمة أخلاقية خسرها العراقيون..ولهذا فإن الطائفيين يكرهون عبد الكريم قاسم،لأن إحياء ذكراه توحّد الناس ضدهم. 

وتبقى حقيقة..أن عبد الكريم قاسم برغم مرور نصف قرن ونيف فإنه باق في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الأساطير،فيما حكّام الخضراء سوف لن يبقى لهم ذكر،وأغلب الظن إن العراقيين سيلعنون معظمهم بعد مماتهم.