في مفهوم العدالة ودواعي العفو..الجريمة، ووخز الضمير!

Saturday 27th of October 2007 08:35:08 PM ,
العدد : 1071
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

 فخري كريم

تعددت الآراء والاجتهادات، حول الحكم الصادر بحق وزير دفاع النظام الساقط سلطان هاشم، والدعوة الى ايقاف تنفيذ الحكم عليه، بدواع ٍ مختلفة ايضاً.

ومن منطلق تقييم حالته الخاصة، باعتبار ما قام به، كان توصيفاً "لمهنيته كعسكري" ملتزم بتنفيذ أوامر القيادة العليا، دون ان يعني ذلك تزكية ممارساته حتى في هذه الحدود "المهنية"، التي ادت الى ازهاق ارواح الاف المواطنين، والاساءة لسمعة الجيش، والاضرار بالمصالح العليا للوطن، دعا الرئيس مام جلال الى التعامل مع هذه "الحالة"، بمعزل عن المتهمين الاخرين في قضيته، وايقاف تنفيذ الحكم عليه. مضيفاً لصالحه، الصلة التي اقامها عبره، وابدى من خلالها استعداده للتعاون ضد حكم صدام، وهو ما أكدته جهات استخباراتية امريكية.

ان هذا التقييم والمطالبة بالتخفيف او العفو عنه، لم يأتيا في سياق رفض المسؤولية الاخلاقية او السياسية عنه، وعن الجرائم التي ارتكبت في حدود القضية التي يحاكم عنها، او في اطار النظام المباد موضع المساءلة والادانة، كما ان ذلك لم يكن بأي حال من الاحوال، اعادة تقييم وتوصيف له، باعتباره "بطلاً وطنياً" أو "رجلاً شجاعاً" يستحق الاشادة والانواط التقديرية من النظام الجديد ومن الشعب العراقي!

قد تكون كيفية معالجة هذه القضية، والتعبير عنها في وسائل الاعلام، مصدراً لالتباسات وتداعيات، ربما أدت الى اشاعة مناخ سلبي، سواء بين المواطنين أو القضاة والحكام الذين كانوا في اساس هذه المحاكمة.

لكن الاساس الأكيد للالتباس، ودفع النقاش باتجاه مناقض تماماً لما سيق من اسباب للرحمة والتخفيف والعفو، ارتبط بتحويلها الى قضية رأي عام مضاد، تولى اثارتها كالعادة، بقدر من الشماتة والعداء والصفاقة والاستفزاز، العناصر نفسها التي تسعى وتدعو الى تفكيك العملية السياسية بكل عناصرها، واعادة النظر في الوضع الجديد، باعتباره عديم الشرعية والاهلية لقيادة البلاد.

ودعاة هذه المطالبة، لم يتركوا اية فرصة، منذ 9 نيسان 2003، دون توظيفها لادانة القوى والاحزاب والشخصيات التي قارعت الدكتاتورية على مدى عقود تسلطها، والدعوة لاعادة الاعتبار للقتلة والمجرمين، وقادته بدون استثناء احد منهم، بل واعتبار علي كيمياوي، وانفال صدام حسين، عملاً وطنياً، وشجاعة اخلاقية، كان لها الفضل في التصدي "للعدوان الايراني"!

وتصاعد استفزاز ازلام وخدم النظام السابق هؤلاء، ليبلغ حد شتم ضحايا الانفال وحلبجة وانتفاضة آذار، وكل ضحايا الدكتاتورية السافرة، واعتبارهم جميعاً عملاء وجواسيس!

هكذا تجرأ بالقول، نائب، ظل حتى آخر لحظة في حياة الدكتاتورية، يلهج بامتداح ولي نعمته، وكذلك بعض المعروفين بصلافتهم، من مسؤولي كتلة نيابية تدعي تمثيل طائفة، وهم في واقع الحال، وكما يصرحون ويتصرفون، ليسوا سوى امتداد فاضح للنظام السابق ودعاة نشطون لتمثيل نهجه الاجرامي، دون ان يستحيوا من ذلك او يهتموا باخفاء توجههم لاعادته للحياة مجدداً، تحت هذه الواجهة او تلك، وكلما ارتفعت اصواتهم دون التصدي لهم، او مساءلتهم واتخاذ التدابير القانونية ضدهم، ازدادوا غلواً وتحدياً واستفزازاً.

ان تواطؤ دوائر عربية واجنبية، مع هذه الاصوات، والرعاية التي يحظون بها من وسائل الاعلام، تثير غيظاً مكبوتاً، قد يؤدي في لحظة تراكم الى تحولات سلبية، لدى ضحايا الدكتاتورية وأسرهم، ولدى جماهير الاحزاب والقوى، وفي اوساط الشعب الكردي، وتساؤلات حول الوجهة الحقيقية التي يجري دفع البلاد اليها، ومصائر دعاوى بناء عراق ديمقراطي تعددي فيدرالي ، ومدى مسؤولية الولايات المتحدة وقواتها في تشجيع هذه النزعات بحجة خلق توازن سياسي-طائفي، يكون اساساً للمصالحة والاستقرار! واين موقف قادة البلاد من ذلك كله.

ان النزعة او التسلط الطائفيين، لا يعالجان بخلق بؤر طائفية مواجهة، ولا بخلق كانتونات طائفية.

كما ان الجرائم والتعديات والاستباحات التي ترتكبها الميليشيات او القوة الباطشة التي تعتمدها السلطة في مواجهتها قضايا عديدة، او في كيفية تصديها غير المشرعن لبؤر الجريمة المنظمة والزمر الارهابية، ليس تبريراً سياسياًُ لمناصري الدكتاتورية وخدمها، ممن يعملون من مواقع مؤثرة في العملية السياسية لتزكية جرائم الماضي والحط من قدر الضحايا والناس الذين روّعوا طوال عقود تسلطها.

ولا بد للعملية السياسية والمشاركة فيها، من قواعد وشروط "وطنية"، يتحدد اهمها واولها في ادانة النظام السابق، وجرائمه وادواته، وتعرية وعزل دعاته وواجهاته الجديدة، ممن يتوهمون بقدرتهم على استغفال المواطنين، وتوظيف الارتباكات غير القانونية، وغير المشروعة في ظل الظروف الجديدة لامرار دعاواهم بتزكية صدام وزبانيته ونظام حكمه، وفتح الطريق امامهم للتسلل الى مراكز اجهاض العملية السياسية الديمقراطية، التي هي نفسها تتعثر وتكبو وتنمو في جنباتها الاعشاب الضارة وقوارض الفساد والردة، وانحطاط الضمير.

ان الاخذ بالمطالبة لتخفيف الحكم على سلطان هاشم، او العفو عنه، او عدم الاخذ بذلك، ليس بأي حال، فرصة لاعادة الاعتبار له، او ترسيمه "بطلاً" ونموذجاً للرجولة او لأي صفة انسانية جديرة بالاسوياء من البشر، بل هي مجرد دعوة للتعامل مع حالة خاصة من "الضعف" "وقلة الحيلة" و"عدم الاحساس بالمسؤولية"، تجرد صاحبها من ارادة المقاومة في وجه أعتى آلة وحشية ضد المواطنين. المعني بها، نفسه مدعو اليوم الى ابداء نوع من يقظة الضمير والشرف، ازاء ما ارتكب من جرائم يندى لها جبين اي انسان حي الضمير، شريف! والمبادرة بالاعتذار و طلب المغفرة من الناس والشعب دون تردد او تلكؤ او انطواء على سوء نية وفساد ضمير.

ان ايراد "المهنية العسكرية" باعتبارها تنفيذاً مطلقاً لاوامر القيادة العليا، ليس لها ان تستقيم دون مراعاة المهمات والواجبات الوطنية المنوطة بالجيش والقوات المسلحة، التي تتحدد في الدفاع عن حدود الوطن وسيادة البلاد، بعيداً عن أي مسؤولية في قمع الشعب وقواه واحزابه.

لنتذكر امثولة الطيارين الذين ارتكبوا جريمة قصف هيروشيما وناغازاكي، وشاركوا في حرب فيتنام، والحروب العدوانية الاخرى، وتعبيرهم عن الاحساس العميق بالندم والشعور بالانحطاط الاخلاقي والتعبير بشتى الوسائل عن تلك الاحاسيس والمشاعر الانسانية.

واذ نتصدى لمعالجة "حالة خاصة، واستثنائية" بغض النظر عن رؤانا وتقديراتنا، علينا ان نراعي حراجة مواقف القضاة والحكام والادعاء العام، الذين قاموا بواجبهم بمسؤولية عالية والتزام بالقانون، وشرف وطني، وشجاعة نادرة. وان لا ندع زبانية (صدام، علي كيمياوي)، الاستمرار في اثارة البلبلة والقلق بين صفوفهم، او اثارة شكوكهم بصواب عدالة احكامهم وحكمتها، بل علينا ان نقوّي من شكيمتهم ونكرس استقلاليتهم، ونقدمهم نماذج لوطنيين مخلصين، لما ندعو اليه من دولة القانون والحريات والعدالة وحقوق الانسان، وما يفترض ان تضمنه هذه الدولة من "استقلالية القضاء".

وليس امام سلطان هاشم اذا كان عسكرياً مهنياً شريفاً، الا ان يقدم دليلاً على سلامة ضميره وهو يبادر لتقديم اعتذار غير مشروط لضحاياه... للعراقيين الملوّعين،..!

للعراقيين الذين تتنازعهم الاهواء والشكوك والقلق، للعراقيين الذين لا يزالون يتشبثون بالامل، او بما تبقى من بر يقه!.