مابعد الإنسانيّة.. نهاية الكائن البشري الكلاسيكي

Tuesday 16th of July 2019 06:39:42 PM ,
العدد : 4471
الصفحة : عام ,

لطفية الدليمي

قد يحيلنا عنوان هذه المقالة إلى أطروحة فوكوياما ذائعة الصيت بشأن ( نهاية التأريخ ) ؛ غير أن أطروحة فوكوياما هي أطروحة آيديولوجية بالكامل ثبتت هشاشتها

- كما إعترف بذلك فوكوياما ذاته - عندما تأكّد لنا بأنّ الليبرالية والأسواق الحرّة ليست الإكتشاف الأخير في حلبة المبتدعات الفكرية البشرية . أما فكرة ( مابعد الإنسانية ) فليست أطروحة آيديولوجية ( برغم مفاعيلها المؤثرة على الصعيد الآيديولوجي ) بقدر ماهي بعض النتائج المترتّبة على صعود تطبيقات الذكاء الإصطناعي وخوارزمياته العامّة التي باتت تشكّل المعلم المميز لحياتنا في عصر الثورة التقنية الرابعة التي أصبحنا نعيش اليوم على أعتابها.

مابعد الإنسانية ؟ 

يرتبط مصطلح ( مابعد الإنسانية Posthumanism ) إرتباطاً وثيقاً مع الإنسان المعزّز رقمياً بصورة مكثفة ، ويشيرُ إلى حالة وصفها العالم البحّاثة الذائع الصيت ( راي كيرزويل ) في كتابه الأشهر ( المرحلة التفرّدية قريبة ) ، ثمّ أكمل رؤيته في كتاب آخر بعنوان ( عصر الآلات الروحية ) . 

مفردة ( التفرّدية Singularity ) الواردة في عنوان كتاب كيرزويل مفردة لها أهميتها الكبيرة وذات مدلول دقيق ، وتعني بشكل عام حالة تختلف نوعياً - وعلى نحو جذري - بين ماهو سابق لها وماهو لاحق عليها ، وفي حالة العالم الرقمي والذكاء الإصطناعي تعني تحديداً تلك الحالة التي لايمكن فيها للإنسان متابعة إستمرارية وجوده من غير دعمٍ ( جزئي أو كلي ) من الوسائط الرقمية التي ستتجاوز مرحلة الوسائط الخارجية (مثل الذاكرات الحافظة للبيانات ، الهواتف النقالة ، قارئات الكتب والنصوص ،،، الخ ) لكي تصل مرحلة التداخل البيولوجي مع وظائف الكائن الحي ( الرقاقات المزروعة في الدماغ البشري ، أجهزة تدعيم السمع أو الرؤية ، الوسائط التي تسمح بخلق بيئات إفتراضية ذات سمات محددة ولأغراض محدّدة هي الأخرى ،،،، الخ ) ، ومايدعو للدهشة إن كيرزويل وضع تأريخاً هو 2029 رأى فيه أن الكائن البشري لابدّ أن يستعين بعده بشكل من أشكال المؤازرة الرقمية الجزئية ؛ أما لحظة التحوّل التفرّدي الثوري العميق والشامل فستحصل مع عام 2045 !! ؛ إذ حينها لن يعود بمستطاع الكائن البشري التعامل مع بيئته من غير قدرات إحتسابية ومُعالِجات للمعلومات والبيانات تفوق قدرته الذاتية مهما توفّر على قدرات بيولوجية وعقلية متفوقة .

مابعد الإنسانية :

تجاوز المحدوديات البشرية

إنّ التوق البشري لإكتساب قدرات جديدة غير مسبوقة هو توقٌ قديم بمثل قِدَم نوعنا البشري ذاته ؛ إذ لطالما جاهدنا في توسيع حدود وجودنا البشري في كافة المستويات الإجتماعية والجغرافية والعقلية ، وثمة ميلٌ طاغٍ ومستديم لدى بعض الأشخاص - في أقلّ تقدير - للبحث عن إنعطافة يمكننا من خلالها تجاوز أية معضلة وجودية أو محدودية يمكن أن تطال الحياة البشرية أو السعادة البشرية أيضاً . 

تعدُّ ملحمة كلكامش الرافدينية ذائعة الصيت الوثيقة البشرية الأولى التي أكّدت سعي الكائن البشري للخلود من جهة ، ويقينه آخر الأمر بأنّ هذا الخلود لن يتحقق عن طريق الإستمرارية الجسدية بل بإستمرارية الأثر الطيّب والفعل الصالح ، وهنا نلمح هذا الإسقاط الفلسفي الذي ينطوي على ثنائية متضادة ؛ إذ لطالما تمّ تصوير المسعى البشري لتجاوز المحدوديات الطبيعية الحاكمة باعتباره مسعى ينطوي على إزدواجية يدفعها مايمكن توصيفه بِـمفهوم ( الغطرسة ) ، ثمّ يدافع هؤلاء الذين يرون في هذا السعي البشري غطرسة خالصة عن وجهة نظرهم بالقول إنّ بعض طموحات هذا المسعى ستندفع خارج سقف المحددات الطبيعية الضرورية لإدامة الحياة البشرية ، وبالتالي ستكون مجلبة لبعض النتائج السلبية العكسية إذا ماتحقّقت بالفعل على أرض الواقع . يمكننا أن نلحظ شيئاً من هذه الثنائية في الميثولوجيا الإغريقية : سرق ( بروميثيوس ) النار من زيوس - كبير الآلهة الإغريقية - وأعطاها للبشر الفانين ؛ الأمر الذي ترتّب عليه تحسين دائمي للوضع البشري بسبب مفاعيله وتأثيراته ؛ لكن بروميثيوس تلقّى عقاباً صارماً من زيوس بسبب فعلته تلك .

تمثل ( مابعد الإنسانية ) تتويجاً للحلم اليوتوبي البشري في الإنعتاق من أسر المحدوديات البيولوجية الحاكمة للوجود البشري ( المرض ، الوهن ، الشيخوخة ، الخرف ، الموت ،،، ) ، ويمثل السعي للخلود الوجه الآخر لمابعد الإنسانية ، وهنا يمكننا القول إنّ الوسائل التقنية وتداخلاتها العميقة صارت هي المرتكز الذي يُراد منه تحقيق ماعجزت عن تحقيقه الأحلام اليوتوبية.

لابدّ هنا من التأكيد على أنّ ( مابعد الإنسانية ) هي أبعد من مجرد تطويرات تقنية تحصل للكائن البشري وتجعله يغادر مرتبة الكينونة البشرية البيولوجية الكلاسيكية ؛ بل أنّ المدلول الفلسفي ( الأنتولوجي ( الوجودي ) للكينونة البشرية ذاتها سيعادُ صياغة مفهومها بعد مغادرة مفهوم ( مركزية الكائن البشري ) في محيطه البيولوجي كما هو حاصل اليوم ، حيث سنشهد إعادة صياغة كلّ الأنساق البيولوجية والمعرفية التي تميّز الوجود البشري الحالي ؛ ومن هنا جاء مفهوم ( نهاية الكائن البشري الكلاسيكي ) ليكون خصيصة مميزة لعالم مابعد الإنسانية.

الإنسانية العابرة للكائن البشري ؟

هناك مصطلح آخر شائع أيضاً في هذا الميدان الفكري ، وأعني به مفهوم ( الإنسانية العابرة Transhumanism ) والذي قد يستطيب البعض أن يسمّيه ( الأنسنة الإنتقالية ) . 

تمثّل الإنسانية العابرة جسراً مابين الكائن البشري الكلاسيكي الذي نعرف وبين عصر مابعد الإنسانية ، وتتحدّد بالتعزيز التقني للقدرات البشرية من غير مجاوزة مركزية الوجود البشري ؛ وعليه فإنّ ماوصفه ( كيرزويل ) في الكائن البشري المعزز تقنياً أنما يمثّل ملمحاً في عالم ( الإنسانية العابرة للكائن غير المعزّز تقنياً ) فحسب ولاتمتدّ برؤيتها نحو الكائن البشري في عالم مابعد الإنسانية ، ولعلّ بعض ملامح رؤية كيرزويل باتت قريبة من عتبة التطبيق واسع النطاق ، وأظنّ أنّ معظم صغارنا الذين لم يتجاوزوا العقد الأول من أعمارهم سيكونون الكائنات البشرية الأولى التي ستشهد تطبيق التعزيز التقني عليها في العقدين القادمين . 

يمكن تصوير الإنسانية العابرة للكائن البيولوجي الحالي غير المعزّز تقنياً بأنها توسِعةٌ وامتداد لفكرة الإنسانية humanism ذاتها والتي يبدو واضحاً أنّ الإنسانية العابرة مشتقّة جزئياً منها . يعتقد الإنسانيون أنّ الكائنات البشرية كينونات مهمّة ، وإنّ الماهية الفردية للأفراد البشريين موضوع جوهري عظيم الأهمية كذلك ، ويتشارك المنافحون عن فكرة الإنسانية العابرة للكائن غير المعزّز تقنياً الإيمان مع الإنسانيين بالقيم الإنسانية المتفق عليها في عالم اليوم ؛ لكنهم إلى جانب هذا لاينفكّون يؤكّدون دوماً على القدرات الفائقة التي يمكن أن يحوزها الكائن البشري وهي خليقة في الوقت ذاته بأن تجعله يتمايز جوهرياً عن الكيفية التي يبدو بها في وقتنا الحاضر ، وبمثل مايمكننا اللجوء إلى الوسائل العقلانية لتطوير الوضع البشري والإرتقاء به وبالعالم الخارجي معاً فيمكننا بالكيفية ذاتها اللجوء إلى ذات الوسائل العقلانية لتطوير ذواتنا والإرتقاء بها .

إنّ موضوعات مثل ( مابعد الإنسانية ) و ( الإنسانية العابرة للكائن البشري البيولوجي المعروف كلاسيكياً ) لهي موضوعات ستراتيجية باتت أبعد مايكون عن التصوّرات اليوتوبية لبعض المفكّرين والفلاسفة الذين قرأنا عنهم في عصر التنوير الأوربي أو عصر الثورات التقنية ( بكلّ أطوارها ) ، وليس أمامنا سوى التفكّر الجاد والمعمّق بهذه الموضوعات وبخاصة أننا صرنا نشهد بواكيرها ، و ستترتّب عليها إستقطابات حادة ( إلى جانب الإستقطابات العالمية الخطيرة السائدة في يومنا هذا ) - تلك الإستقطابات التي ستعيد تشكيل المشهد العالمي بطريقة درامية لم نعهدها أبداً .