الافتتاحية: حول مفهوم الديمقراطية..بين الشعب والسلطات..ثقافتان في حالة تصادم

Tuesday 1st of March 2011 06:57:20 PM ,
العدد : 2057
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

فخري كريم

-2-

كان من أسباب تراكم  مشكلات العملية السياسية، ومعها عملية بناء الدولة الجديدة طيلة ثماني سنوات هو (تعطيل)

الكثير من إجراءات الديمقراطية اللازمة لمواجهة الفشل والإخفاقات التي بقيت تتراكم على طريق تأهيل الدولة ومؤسساتها، كدولة ديمقراطية، على المستويات كلها: السياسية والاقتصادية والتربوية والاجتماعية،

 وقبل كل هذا على المستوى التشريعي.. ذلك أن لا ديمقراطية تعمل وتنتج من دون نظام تشريعي متكامل ومتعاضد وليس متعارضا.

لقد بدأت الديمقراطية العراقية وكأنها تريد أن تختصر كل شيء، الزمن والوعي والمتطلبات الإنسانية والحزبية والمؤسسية والظروف التي تعيق التطور الطبيعي للولادة والنمو الديمقراطي في بلد شهد وعاش على أسوأ فصول الدكتاتوريات، بسلوكيتها وثقافتها وتقاليدها.. كانت الرغبة المجردة بالديمقراطية أكبر من المؤهلات اللازمة لبنائها.. وكانت المخاطر التي تحيق بالبناء من جهة والإرادة الوطنية العازمة على استعادة السيادة وإنهاء الاحتلال من جهة ثانية هي ما فرض (التسامح) وغض الطرف عن الكثير من الأخطاء والممارسات والظواهر.. وكان بعض الأخطاء قاتلاً.

الديمقراطية في أي مجتمع هي نسيج متكامل ومتحرك.. فاعلية وديناميكية بين الشعب والسلطات، جدل، قبول واعتراض ينتج عنه تقدم المجتمع والدولة أو تراجعهما، اعتمادا على قدرة الديمقراطية على ضبط الصراع وتوجيهه.. لكن الديمقراطية العراقية بقيت معطلة لكثير من مفاصل تحريك الجدل وتفعيله، وبدت كما لو أنها نظام يسير على وفق النيات الحسنة، بينما لا مجال للنيات في عمل بمشروع دمقرطة دولة، وهو عمل محكوم، بمرحلته التأسيسية، بصراع إرادات وإيديولوجيات ومصالح.

لقد ظهرت القاعدة الشعبية العريضة مؤازرة وداعمة ايجابياً لمراحل النزول بالديمقراطية إلى الأرض.. خرجت الملايين في انتخابين واستفتاء على الدستور، وكان مسيرها محفوفا بالانفجارات والتفخيخ والقتل.. فكانت مأثرة عظيمة وقف لها العالم محييا شعبا عازما على بناء ديمقراطيته ودولته بشجاعة سنظل نفخر بها.

اختارت الناس نوابا لم تكن تعرف عن معظمهم أي شيء.. وكانت الثقة بقوى سياسية عارضت صدام عقودا من جانب والرغبة بوضع أسس، أي أسس، لبناء الديمقراطية من جانب ثان، وتحدي إرادة الإرهاب والعودة إلى الدكتاتورية من جانب ثالث، هي كلها دوافع أخلاقية ووطنية للخروج العظيم للشعب في انتخاباته والاستفتاء على دستوره.

ومع هذا الخروج كان يعتمل في دواخل المواطنين عدم رضا على آفة المحاصصة التي وجدوا أن الانتخابات وبرلمانها وحكومتها قد انتهت إليها.

وكان الفساد الذي يستظل بالتحاصص ويستفيد من أجواء العنف والإرهاب، ويغذيهما بأحيان كثيرة، ويستغل ضعف إدارات الدولة، كان يثير وينمي الغضب في نفوس المواطنين.. فيما كانت سياسات الحكومات ودوائرها الخدمية تنام على هزال جهودها وتلفيق مشاريعها الوهمية واستعراض خططها الزائفة، مطمئنة من أن الشعب مضطر للقبول بالحال ما دام ثمة خوف من أن تسرق دولته الجديدة من قبل الإرهاب أو من قبل الدكتاتورية التي لم تزل تطل بأشباحها من خارج الحدود.

كان الغضب ينمو لكن فرص التعبير عنه، سلميا وديمقراطيا، كان يجري إرجاؤها تحت ضغط تلك الظروف، ولعدم التمرن على تقاليد الاعتراض والاحتجاج الديمقراطية.

لقد انتهينا منذ 1963 من استخدام الاحتجاجات العلنية، وأدخل الشعب في نفق الغضب الداخلي، كتمان الاحتجاج، أو انتظار فرصة تصريفه بطرق غير سلمية.. هكذا تنمي الدكتاتوريات نزعات العداء والانتقام وحتى تدمير الشعور بالمواطنة وبالمسؤولية عن الممتلكات العامة التي ينظر إليها بوصفها ممتلكات قمع واحتكار سلطة مسخرة ضد إرادة المواطن.

لم يجرب الشعب فرصة للتعبير العلني السلمي عن احتجاجه على أخطاء العملية السياسية وأخطاء إدارة الدولة بعد 2003.. وكانت القوى السياسية المهيمنة والقادرة على تحريك الشارع تضبط إيقاعها على أساس التشارك في المحاصصة، وما يوجبه من مهادنات وتبادل للصمت.. وكان هذا التشارك ممرا لتضخم المشكلات واستفحال الأزمات وغياب أفق الحلول المرجوة.

في الكثير من مناسبات الأزمات التي كانت تعترض تلك الشراكة لم تكن الوسائل الديمقراطية بإطارها الصحيح هي الحل لتفاهم وانسجام القوى المتصارعة.. كان (تكييف) الديمقراطية وليّها حسب المتطلبات هو أيسر الحلول للخروج من أزمات.. ولم يكن الخروج ممكنا لكنه الإرجاء، إرجاء الأزمات والتعويل على الزمن.. هكذا جرى ابتكار الجلسة المفتوحة للبرلمان، كوسيلة أسبغت عليها شرعية مبهمة لتضييع الزمن بصورة غير دستورية ولمحاولة الوصول إلى حل، أي حل.. هكذا مثلا جرى اجتثاث البعض، وهكذا أعيد البعض إلى منصب رفيع وكأن اجتثاثا لم يحصل!! وهكذا مثلا صعد إلى البرلمان من صعد ولم تكن له في صناديق الانتخاب أكثر من ألفي صوت.. أي التفاف على الديمقراطية، وأي تسفيه للانتخابات هذا؟

من المؤسف أن الكثيرين من متقدمي الطبقة السياسية كانوا ينظرون إلى الديمقراطية بوصفها هذا..اسفنجة قابلة لامتصاص كثير أو قليل من الماء حسب الحاجة.

الديمقراطية وانتخاباتها هي تصارع بين برامج عمل تتنافس من أجل كسب ثقة الجمهور.. لكن الجمهور العراقي لم تقدم له برامج في الانتخابات الثلاثة التي أنجزها.. وهذا خلل كبير في العملية الديمقراطية ضاعت معه فرص المراقبة والمحاسبة على أساس البرامج.

كان المواطنون يريدون أن تستمر العملية الديمقراطية، لكن جزءا كبيرا من تسييرها يبقى يعتمد على نشاط المواطن في المراقبة والدعم والاحتجاج.. وما حصل هو دعم من طرف واحد، دعم الشعب للسياسيين وانصراف هؤلاء عما يأمله الشعب صامتا صابرا محتسبا.

لقد عزونا الكثير من هذه المشكلات إلى الظرف التاريخي والى طبيعة التركيبة الفكرية الإيديولوجية لمعظم القوى السياسية والى التربية في بيئة لم تدرب الشعب والسياسيين على حد سواء على العمل بالديمقراطية.. لكن كان المفروض بالسياسيين أن يكونوا أسرع وأكثر مرونة في تأهيل أنفسهم وقواهم الحزبية للعمل في النظام الجديد، وهذا ما لم يحصل حتى الآن.

وفي المقابل من هذا، وفي الضد منه كانت أجيال جديدة، بعضها شبّ على الحياة، وقد أطيح بالدكتاتورية، وبدأت لغة جديدة في القاموس السياسي اليومي تتغير، اختفت مفاهيم وحلت محلها مفاهيم جديدة..اختفت إجراءات وجرى التعرف على إجراءات أخرى.. ثمة انتخابات، وثمة سلطة يمكن نقدها، ثمة مجتمع مدني وحقوق وحريات.. وثمة عالم افتراضي يكتشف به نفسه ويكتشف محيطه والعالم، ثمة انترنيت وفيسبوك وتويتر.. وفضاء اتصالي مفتوح.

لم يكن الشبان العراقيون بعيدين عمّا كان يفعله مجايلوهم في أماكن أخرى.. لكن السلطات وحدها التي لم تكن تفكر بما يمكن أن يفعله شبان جربوا الحرية في الحياة والحرية في الانترنيت.. ولم يعد ممكنا سوى الإصغاء إليهم، وهم يعودون ثانية من العالم الافتراضي إلى الحياة، إلى الشارع، إلى ساحة التحرير.

يفهم هؤلاء الشبان ويعيشون الديمقراطية أكثر مما ننشغل به نحن من التفكير بها.. الحياة هي إجراءات وزمن يمضي.. يدرك الشبان ذلك بفعل حيويتهم في الحياة ورغبتهم باختصار الزمن، زمننا الثقيل الذي يمشي الهوينى.

هل نستمر نمشي الهوينى؟ هل فينا القدرة على الجري؟ هل نمتلك إمكانية  أن نعمل؟ ما الذي يمكن عمله؟

ندرك أن هذه الأسئلة قابلة للتوالد.. لكن ندرك أيضاً أن الشروع بالعمل أكثر جدوى من التفكير الذي لا يعبأ به الشبان كثيرا