الإنسانية العابرة TRANSHUMANISM: الـخـلـفـيـات الـثـقـافـيـة والـفـلـسـفـيـة

Tuesday 30th of July 2019 07:28:54 PM ,
العدد : 4481
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي - المؤلف : نِك بوستروم

- القسم الاول -

التوق البشري لإكتساب قدرات جديدة غير مسبوقة هو توقٌ قديم بمثل قِدَم نوعنا البشري ذاته ؛

إذ لطالما جاهدنا في توسيع حدود وجودنا البشري في كافة المستويات الإجتماعية والجغرافية والعقلية ، وثمة ميلٌ طاغٍ ومستديم لدى بعض الأفراد - في أقلّ تقدير - للبحث عن إنعطافة يمكننا من خلالها تجاوز أية معضلة وجودية أو محدودية يمكن أن تطال الحياة البشرية أو السعادة البشرية أيضاً .

تُرينا مراسيم الدفن الإحتفالية وكذلك بعض النصوص الدينية المحفوظة حتى يومنا هذا أنّ الكائنات البشرية ماقبل التأريخية * كانت مهجوسة وخائفة من تحمّل فكرة موت أحبائها ؛ ومع أنّ هذا الإعتقاد لم تخفت جذوته وظلّ شائعاً في الحقب اللاحقة لكنه لم يكن مَصدّاً مانعاً بوجه المحاولات البشرية الحثيثة نحو توسيع تخوم الحياة الدنيوية للفرد . تخبرُنا ملحمة كلكامش Epic of Gilgamish السومرية ( حوالي سنة 1700 ق. م. ) أنّ ملكاً إنطلق في مسعى لايلين نحو طلب الخلود ، ويعلم كلكامش منذ البدء بوجود وسيلة طبيعية لحيازة هذا الخلود ، ويكمن سرّ هذه الوسيلة في عشبة تنمو في قاع البحر . ينجح كلكامش آخر المطاف في إستعادة العشبة من البحر ؛ لكنّ أفعى تسرق العشبة منه قبل أن يستطيع تناولها . حصل في أوقات لاحقة أن راح المستكشفون يبحثون عن نبع الشباب ؛ في حين إندفع الخيميائيون في عملٍ مضنٍ لبلوغ الخلطة السحرية لإكسير الحياة ، وجاهدت مدارس عدّة تنتمي لفكر الطاوية الصينية لبلوغ الخلود الجسدي بواسطة ممارسة السيطرة على قوى الطبيعة أو التعامل الهارموني ( المتناغم ) معها ؛ لكن كانت الحدود الفاصلة بين الأساطير والعلم ، وبين السحر والتقنية مضبّبة يشوبها الزيغ رغم أنّ البعض القليل من الأفراد راح يندفع للحصول على وسائل مجرّبة ودقيقة للحفاظ على الحياة لأطول مدى ممكن . حقّق بعض المستكشفين مكتشفات مثيرة للإعجاب ، كما إخترع بعض العاملين بالخيمياء القديمة بعض الأشياء المفيدة في هذا الشأن مثل تخليق صبغات جديدة وتطويرات غير مسبوقة في علم التعدين ؛ لكن برغم كلّ ذلك أثبت الهدف الساعي لتوسيع مدى الحياة البشرية أنه هدف يتّسم بالمراوغة وصعوبة التحقّق على أرض الواقع . 

لطالما تمّ تصوير المسعى البشري لتجاوز المحدوديات الطبيعية الحاكمة له بكونه مسعى ينطوي على إزدواجية يدفعها مايمكن توصيفه بِـمفهوم ( الغطرسة ) ، ثمّ يندفع هؤلاء الذين يرون في هذا السعي البشري غطرسة خالصة بالدفاع عمّا يرونه من وجهة نظر بالقول أنّ بعض طموحات هذا المسعى ستندفع خارج سقف المحددات الطبيعية الضرورية لإدامة الحياة البشرية ، وبالتالي ستكون مجلبة لبعض النتائج السلبية العكسية إذا ماتحقّقت بالفعل على أرض الواقع . أبدى الإغريق القدماء نمطاً من هذه الإزدواجية في الميثولوجيا الإغريقية : سرق ( بروميثيوس ) النار من زيوس ( كبير الآلهة الإغريقية ، المترجمة ) وأعطاها للبشر الفانين ؛ الأمر الذي ترتّب عليه تحسين دائمي من حيث مفاعيله وتأثيره في الوضع البشري ؛ لكن بروميثيوس تلقّى عقاباً صارماً من زيوس بسبب فعلته تلك . يحصل عادة في الميثولوجيا الإغريقية أن يتمّ تحدّي الآلهة على نحوٍ ثابت ومستديم وبمسعى يتكلّل بالنجاح دوماً من قبل ( دايدالوس ) ، الفنّان والمهندس الذكي الألمعي ، الذي يلجأ لتوظيف وسائل غير سحرية لتوسيع مدى القدرات البشرية ؛ ولكن تحلّ الكارثة في نهاية المطاف عندما ينكر إبنه ( إيكاروس ) التحذيرات الأبوية له ويندفع محلقاً في حيّز قريب للغاية من الشمس ، وحينها يسقط ميتاً بعد أن ذاب الشمع الذي يربط جناحيه بجسده . 

حمل المسيحيون القروسطيون تصوّرات متصارعة شبيهة بالتصورات الإغريقية بشأن مسعى الخيميائيين الذين كانوا يسعون بكلّ ماأوتي لهم من طاقة لتحويل المواد ( إلى ذهب ، المترجمة ) ، وتخليق كائنات بشرية قزمة في أنابيب الإختبار ، وإكتشاف ترياقات لعللٍ كثيرة ، وقد إعتقد الكثيرون من المفكّرين المدرسيين ( السكولاستيين ) من أتباع التعاليم المضادة للتجريبية للقدّيس أوغسطين أنّ الخيمياء كانت فعالية عصية على نيل بركات الآلهة ؛ فقد كان ثمّة إدعاءات بأنّ الخيمياء تستدعي قوى شيطانية . من جانب آخر دافع بعض اللاهوتيين ( مثل ألبرتوس ماغنوس وتوماس الأكويني ) عن الممارسة الخيميائية .هيمن الإيمان بالتعاليم الأخروية والفلسفة المدرسية القديمة على أوربا كلّها في العصور الوسطى ؛ لكنّ هذا الإيمان أخلى حصونه للحماسة الفكرية المتوهجة غير المسبوقة التي ترافقت مع عصر النهضة ، وصار الكائن البشري والعالم الطبيعي كذلك موضوعات مشروعة للدراسة والإستقصاء والمساءلة ؛ إذ شجّعت الحركة الإنسانية النهضوية الناس على الإرتكان إلى ملاحظاتهم الشخصية في تشكيل رؤاهم الحجاجية عوضاً عن الإحتكام إلى الشخوص المرجعية الدينية في كلّ موضوعة تعرض لهم صغيرة كانت أم كبيرة . إلى جانب هذا الأمر خلقت الحركة الإنسانية النهضوية فكرة الفرد المؤهل تأهيلاً جيداً ومتوازناً والذي تطوّر بشكل لائق على الأصعدة العلمية والأخلاقية والثقافية والروحية . إنّ عملاً مرجعياً يمثل مثابة عليا في حقبة النهضة الاوروبية هو ذلك الإعلان الملحمي الذي كتبه (جيوفاني بيكو ديلّلا ميراندولا ) تحت عنوان ( إعلان بشأن كرامة الإنسان ) ( 1486 ) والذي صرّح فيه بأنّ الإنسان ليس كينونة كاملة التكوين جرى تشكيلها من قبل مرة واحدة وإلى الأبد ؛ بل هو كينونة تمتلك مسؤولية كاملة عن تشكيل صورتها وطريقة رؤيتها للعالم : 

لم نجعل منك كائناً مخلوقاً سماوياً أو أرضياً ، فانياً أو خالداً ، وذلك بقصد أن تمتلك القدرة على تشكيل ذاتك بالشكل الذي تحبّ باعتبارك الخالق الحرّ والفخور المسؤول عن تشكيل كينونته الشخصية ، وسيكون الأمر رهيناً بإرادتك وحسب فيما لو إخترتَ أن تنزلق نحو واحدٍ من الأشكال الدنيا البهيمية من الحياة ، والتي يبقى بمستطاعك دوماً ، وبقرارك الشخصي وحدك ، أن ترتفع بها متى ماشئتَ نحو تلك التخوم المتسامية التي تكون الحياة فيها مثل حياة النعيم السماوي العتيد ... 

غالباً مايُصرّح بأنّ عصر التنوير إنطلقت مسيرته مع نشر ( فرانسيس بيكون) لكتابه الأشهر (الأورغانون الجديدNovum Organum) ( 1620) الذي يعني عنوانه ( الوسيلة الجديدة ) ، وقد إقترح فيه بيكون منهجية علمية منظّمة مؤسسة على الإستكشاف التجريبي والمساءلة الإختبارية بدلاً من الإرتكان إلى المواضعات السائدة والمسبّقة . دافع بيكون من غير هوادة عن مشروعه الفكري الضخم الداعي إلى " التأثير في كلّ الأشياء وبكافة الوسائل الممكنة والمتاحة " ، وهو مايعني إستخدام العلم لتحقيق السيادة على الطبيعة بغية الإرتقاء بالوضع المعيشي للكائنات البشرية . يمازج الإرث الفكري لعصر النهضة التأثيرات التي إصطنعها كلّ من إسحق نيوتن ، توماس هوبز ، جون لوك ، إيمانوئيل كانت ، الماركيز دي كوندورسيه ،،،، وآخرين سواهم لتشكيل الأساس الذي قامت عليه الحركة الإنسانية للعقلانية التي أكّدت على الأهمية العظمى للعلم التجريبي والعقل النقدي بديلاً حاسماً عن الرؤى الفنتازية والمرجعيات الدينية ، فضلاً عن اعتبار العلم التجريبي والعقل النقدي وسائل تعلّم وحيدة بشأن العالم الطبيعي ومكانتنا فيه ، إلى جانب كونهما أساساً بمستطاعه توفير خلفية رصينة لأيّ نسق أخلاقي خليق بكلّ دواعي الإحترام والتوقير . من الأهمية الحاسمة هنا التأكيد بأنّ الفكر العابر للإنسانية المتمحورة على الكائن البيولوجي الحالي إنّما تمتلك جذورها الراسخة في حركة الإنسانية العقلانية التي شاعت وتعاظم تأثيرها في عصر النهضة الأوروبية .

* ماقبل تأريخي Prehistoric : مصطلح يشير إلى الحقبة التي تسبق إختراع الكتابة في الحضارة السومرية مابين السنوات ( 3400 - 3200 ) ق. م. 

( المترجمة )