سياسات التقوى

Saturday 3rd of August 2019 06:33:08 PM ,
العدد : 4483
الصفحة : آراء وأفكار ,

 سليم سوزه

حادثة ملعب كربلاء الأخيرة لم تكن الأولى ولن تكون الاخيرة أيضاً، فقبلها كانت الحملة "التكفيرية" الكبيرة ضد إحتفالات التخرج لطلبة الجامعات،

والحملة ضد محلات الخمور في بغداد وبعض المحافظات، ثم حملة الإدانة المتشددة لمسلسلات رمضان العراقية، وبعدها الحملة التي قادتها إحدى حركات الاسلام السياسي ضد الدكتورة إرادة الجبوري بسبب إحدى أسئلتها الإمتحانية، ناهيك عن التنكيل المستمر بالحياة المدنية والحريات الشخصية التي تعتقد جماعات الإسلام السياسي أنها مظاهر مهددة لفكرة التدين، تلك الفكرة التي تستمد منها أحزاب الاسلام السياسي زخمها وحضورها دون الحاجة الى برامج سياسية وتنموية.

ورغم أن هكذا جدل قد أرجعنا الى مناقشة بديهيات مجتمعية تجاوزتها الدولة العراقية قبل ٥٠ عاماً أو أكثر (وهو أمر قد يكون محبطاً للجميع)، ومع أننا صرنا في ٢٠١٩ (كما يبدو) أكثر تشدداً وتحفظاً من مجتمعات دول الخليج الأخرى، أعتقد أن هذا النقاش مهم ومفيد لنا جميعاً، لأننا من خلال إستمراريته نتعرف يوماً بعد يوم كيف أن سياسات التقوى politics of piety (التي تريد من خلالها أحزاب الاسلام السياسي إعادة إنتاج الفضاء الديني المتخم بالتقديس) تلعب دوراً كبيراً في تحويل المادي الى تصوّري، أو "المكان الجغرافي المقدس" الى متخيل سياسي حتى تتمكن تلك الأحزاب من خيارات الناس وتقبض على إيمانهم لصالحها.

نعم، قد تلعب سياسات التقوى دوراً مؤثراً في التحشيد السياسي ضد هذا العدو أو ذاك الغريم، وقد يصبح لها تأثير واضح داخل حتى بيئتها الصديقة ومحيطها غير المعادي، لكنها على المستوى البعيد تفقد إحدى أهم حيلها، وهي القدرة على توظيف المشاعر الدينية وتحويلها الى منتج سياسي. كلما أمعنت هذه الأحزاب في سياسات التقوى، إزدادت حدة نقد الجماهير لها؛ بالتالي كل محاولات الأحزاب الاسلامية في الإحكام على الفضاء الديني من الأعلى تقابلها محاولات الآخرين المعارضين في التأثير على جماهير تلك الأحزاب من الأسفل. هي تربح الفضاء لكنها تخسر الأرض دون أن تعرف.

هذا جدل قاس لكنه لذيذ وحيوي لأنه يراكم القلق عند الظلاميين ويجعل أفكارهم البالية والهشّة خائفة ومرعوبة حتى من نشيد بلدها الوطني.

المسألة مسألة وقت فقط، والموضوع لم يعد يخص صراع الإسلاميين مع العلمانيين، وإنما تحوّل الى صراع بين عراقيين متدينين بتدين حلو ومتسامح وبين طبقة سياسية إسلامية داعشية متحجرة تريد إعادة رسم حدود المقدس من أمكنة وأضرحة دينية معروفة ومحترمة الى خريطة واسعة تشمل كامل التراب العراقي.