في الذكرى 22 لرحيله..عن مرجعيات الجواهري الثقافية

Saturday 3rd of August 2019 06:41:10 PM ,
العدد : 4483
الصفحة : عام ,

د. نادية هناوي

يمتاز شعر محمد مهدي الجواهري بمرجعيات ثقافية خاصة، كثيرا ما حسده عليها مجايلوه وسيحسده أيضاً لاحقوه والتي منها أسس معماراً شعرياً شامخاً،

أكد فيه سطوته على القصيدة العربية الكلاسيكية، ليكون شاعر العرب الأوحد.

وهو الذي أدرك إن الشعر هو التشكل الواقعي للحياة وهو التمثيل الرومانسي للنفس أو لعله أيضاً الارتهان الرمزي بالدلالة التي تنظم تجربة الإنسان وتؤنسنه في عالم ثقافي رحب. ولم يأتِ الجواهري إلى عالم الشعر إلا بعد أن حشَّد نفسه بالقراءات التي جعلت الشعر طوع مخيلته تدعمه ملكة أصيلة وموهبة سامقة.

ونقدياً تعد الدراسة في الخلفيات المرجعية المؤسسة للنص الشعري تنقيبا ورائيا عن الخيوط الرابطة بين متعالقات الذخيرة القرائية من جهة، ومواضعات النص من جهة أخرى التي منها تتشكل المرجعيات التي هي مورد الإحالات ومنبع التشكيلات التي يستمد منها النص وجوده وهو أيضا المنهل المعرفي الذي يختزن في طبقات اللاوعي الإبداعي ليتمظهر على الصعيد الإنجازي بشكل عفوي وفعلي داخل المتوالية الإبداعية ( باث / رسالة / متقبل). 

وتجربة الجواهري في الشعر أودعته خانة الكلاسية الجديدة؛ وبعض قصائده كما يرى د. علي عباس علوان تأتي مغايرة لبعض القيم الكلاسية وأولها محاولة الشاعر التعبير عن ذاته وإحساسه الفردي بطريقة قد تخالف قيم مجتمعه. 

وتكشف مرجعيات النص الجواهري أن الشعر تعبير عن مكامن ثقافة الشاعر وغنى مودعات ذاكرته التخييلية وما ترسب فيها من تجليات افتنانه بالتراث الشعري العربي أو في تفاعله مع الواقع المعاصر لتكون بمثابة المصادر المغذية للتفكير الشعري والروافد الممدة بالرؤية الشمولية التي بها تميز الجواهري عن مجايليه كشاعر من طراز خاص.

وقد لا تغدو المرجعيات التأسيسية للنص الجواهري واضحة للعيان إلا بتشكلها على هيأة تلازميات جدلية ازدواجية يتلاقى داخلها عنصران تكوينيان ينتمي الأول إلى الذات نفسها ككينونة باثة ومرسلة في حين يلتحق الآخر بالمتلقي بوصفه كينونة إنتاجية قائمة بنفسها مكملة للإبداع ومتخلقة داخل الذات الشاعرة نفسها أو متجسدة بوعي مستقل وإدراك مخصوص خارج الذات الشاعرة. وكل مرجعية هي عبارة عن تلازمية جدلية وتعالقية نصية تؤسس لشكل من التقاسم الابداعي او لنوع من التجاور الجمالي الذي يحدد طبيعة التوظيف الاسلوبي داخل كيان النص الشعري. ومن مرجعيات الجواهري مرجعية التلازم التراثي بين الديني والتاريخي والمرجعية الابداعية ما بين الشعري والنقدي والمرجعية الجنوسية بتلازم ثنائية الجندر المذكر المؤنث والمرجعية الذاتية المتمثلة بالهوية انتماء واغترابا.

وسأخصص القول في المرجعية الابداعية اذ لا يخفى على المهتمين أن النقد والشعر ضربان إبداعيان لا يفترقان إلا لكي يلتقيا، ولا يلتقيان إلا ليفترقا كإشكالية ثقافية طالما ظهرت في الأدب ككينونة وعي وصيغة تجنيس. وإذا كانت مكمن العلاقة بين النقد والشعر الإبداع؛ فإن المرجعية في كل منهما متداخلة داخل الذات الواحدة جامعة بين الأديب والناقد ليكون لها في النقد موقع ومع الشعر متسع. وبسبب هذه الازدواجية الإبداعية ظل الجواهري بمنأى عن أن يكون طارئاً على النقد مثلما هو غير طارئ على عالم الشعر.

ومثلما مارس الشعراء العرب قديماً نقد الشعر بالشعر؛ فكذلك كان الجواهري راغباً في أن يتبنى النقد مدافعاً عن إبداعه فارضاً سلطته كنوع من نرجسية ترتد بالشاعر إلى ذاته فخراً بموهبته وذيوع صيتها وإشهارا لأحقيته كشاعر لا يشق له النقد غبارا ، مطمئنا كل الاطمئنان إلى تأديته لوظيفته الشعرية على أكمل وجه.

لكن السؤال الذي يفترض طرحه هو إلى أي مدى أمكن للشاعر الجواهري أن يمارس النقد شاعراً ينقد الشعر بالشعر عارفاً بعمله وخابراً بوظيفته حتى عد ذلك الصنيع مرجعا تأسيسياً للمدونة الشعرية عنده؟!

لعل من مبدئيات القول إن الجواهري لم يكن بالطبع من أولئك الشعراء الذين جمعوا بين صفنني الشعر والنقد كاليوت أو عبد العزيز المقالح أو ادونيس لكنه وبسبب كونه محترف لغة وكتابة وممتلكا لناصيتهما بامتياز ، لم يثنه النقد عن أن يدخل مضماره وهو المدرك لمهامه ووظيفته ومكونات نصه. وهو الذي رأى الشعر مقتنص اللواعج والشوارد وهو الذي يفجر القروح التي لا تطاق الا انه ايضا سبب تعطيل العقل لصالح العواطف وهو الذي حملّه هموم الشرور وهو يأخذ على حساده القساة كيف انهم يسألونه لمَ تركت االشعر ام ان الشعر هو الذي تركه؟ وهل نضبت العواطف عنده؟

ليعلن متألما أن هؤلاء لا يرون إلا الظاهر وتخفى عليهم دوافع القول فكأن الشعر عندهم قبسة قابس أو سلعة بائع، فقال في قصيدة( اجب أيها القلب) :

ويا مضغة القلب الذي لا فضاؤها

برحب ولا أبعادها بشواسع

أأنت لهذي العاطفات مفازة

نسائمها مرتجة بالزعازع 

حملتك حتى الاربعين كانني

حملت عدوي من لبان المراضع 

وعطلت مني منطق العقل ملقيا 

لعاطفة عميا زمام المتابع 

ولعل ما يميز مرجعية الجواهري الشعرية، اعتداده بنفسه وأصالة الملكة التي يتحلى بها وصلابة الأدوات التي يستقي منها مرجعياته القولية تجاورا وتجاوزا مشابهة ومخالفة. وهو الذي عرف بنَفَسه الطويل في مدّ القصيدة لتصل الى عشرات الأبيات ومما أسهم في اضفاء الهيبة على شخصيته أن في داخل مرجعيته الشعرية مرجعية أخرى ناقدة عصية على المراس وليس كما يدعي بعض حاسديه من أنه قلد القدماء لا غير.

ويبدو أن هذا التأسيس المرجعي قد جعل الشاعر ناقداً لنفسه وكذلك ناقداً لغيره من الشعراء او من غير الشعراء. وقد أعانه ذلك كله على تأمل الشعر والشاعرية وعلى التحلي بالنزعة السجالية في التعبير عن الطاقة الإبداعية التي ظلت ملازمة له دافعة إياه ليتأمل ذاته دائماً وليعرف موجبات القول وموحياته أيضاً. ففي قصيدة (الشاعر) نجد الشعر يقض عليه مضجعه ليل نهار وهذا ما يدفعه إلى أن يستقي مرجعياته لا من الواقع بل من رؤيته للواقع ليعلن أنه ليس بحاجة الى من يواسيه كونه يحمل المواساة داخل نفسه .

والبلايا هي التي تجعل الشعر يتدفق وجعاً ليعكس ما تحمله نفسه من مرارة الى الناس مضمراً بعض أسراره التي كان راغباً بإشاعتها للملأ إلا إنه اخفاها على غير إرادة :

لا أريد الناي إني

حامل في الصدر نايا 

عازفا آنا فآنا

بالأماني والشكايا

البلايا أنطقته

سامح الله البلايا 

وفي قصيدة (الشاعر المقبور) يناجي الشاعر ذاته وقد لاح الموت له، فتفجرت عنده مكامن الإبداع ومصادر الشاعرية عن ملكة أصيلة انطلقت فانقشع الظلام:

دعا الموت فاستحالت لديه سرائره

اخو مورد ضاقت عليه مصادره

عراه سكوت فاسترابت عداته

وما هو إلا شاعر كل خاطره 

فيا ظلمة الآمال عني تقشعي

فقد تتجلى عن فؤادي دياجره 

وكشف وصفه للمتنبي عن مكامن المرجعية الشعرية المتشظية داخل ذاته الشاعرة وهذا ما توضحه قصيدته الرائعة المهداة للمتنبي وعنوانها (الشاعر الجبار) ومنها قوله:

ولد الألمعي فالنجم واجم

باهت من سطوع هذا المزاحم 

يا صليبا عودا تحدته انيا

ب الرزايا فما استلان بعاجم 

شامخ انت والحزازات تنها

ر وباق وتضمحل الشتائم 

وحياة الابطال قد يعجز الشا

عر تفسيرها كحل الطلاسم

أي نفس هذي التي لا تعد ال

عمر غُنما الا بظل المَغارم