المتمردون..هل لنا ان نسأل : ما هو غموض هذا العالم ؟ - الحلقة 11

Saturday 3rd of August 2019 10:08:59 PM ,
العدد : 4483
الصفحة : عام ,

 علــي حســـين

سأكون سعيدة حينما أموت، هذا سيجعلني أتوقف عن القلق من كل هذه الحروب .

دوريس ليسينج

كتبت أكثر من خمسين كتاباً ، وفي كل مرّة تقول لنفسها هذا هو الكتاب الأخير ، ظلت صورة أمها الممرضة ترافقها حتى الساعات الأخيرة من حياتها، تقول :" كان قلبها دافئاً ولكنها لم تكن حساسة. من المحتم أن تمريض المجروحين كان أشبه بالجحيم. يصلون بعربة لوري، وبعضهم مات فعلياً. المحتم أن هذا مزّقها، تقدير ذلك أخذ مني وقتاً طويلاً" .

تقول لكاتب سيرتها إنها تربّت على الحروب عن طريق والدها الذي كان جندياً في الحرب العالمية الأولى ، وقد بترت له الحرب إحدى ساقيه :" كان أبي يتحدث عن الرجال الذين عرفهم وماتوا في معركة باشانديل حتى اليوم الذي مات فيه.

كان يتساءل دوماً إن كان من الأفضل أن يموت معهم، ولكن على الرغم من ذلك لم يجعل الإصابة تعيقه، كان يفعل كل شيء" ، ظلت الحرب تجثم على صدرها ، وفي الرابعة والثمانين من عمرها ستقف أمام الكاميرات لتعلن إنها تكره الحرب مثلما تكره توني بلير – كان آنذاك رئيساً لوزراء بريطانيا :" كثيرون منا يكرهون توني بلير. أعتقد أنه كان كارثة لبريطانيا وقد عانينا منه لسنوات عديدة. لقد قلت ذلك عندما تمّ انتخابه: هذا الرجل رجل استعراضي صغير سوف يسبب لنا مشاكل وقد فعلنا ، وبالنسبة لبوش ، فهو كارثة عالمية. الكل سئم من هذا الرجل. إما أنه غبي أو ذكي للغاية ، رغم أنه يجب عليك أن تتذكر أنه عضو في طبقة اجتماعية استفادت من الحروب".

تقول إن الحرب سمّمت الحرب في طفولتها، وجعلتها متشائمة . تحس بثقل الحرب يزداد مع تقدمها في العمر:"سأفرح عندما أموت لأن ذلك سينقذني من القلق تجاهها". دهشتها قدرة الكاتب الالماني إريك ماريا ريمارك، على تصوير مآسي الحروب قرأت له "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، ، لكنها أغرمت برويته " الرفاق الثلاثة " والتي تتحدث عن ثلاثة جنود ألمان يعودون بعد الحرب الى بلادهم ليروا الناس يجرّون عربات كدسوا فيها ملايين الماركات التي لم تعد تساوي شيئاً. 

إريك ماريا ريمارك الذي ولد عام 1898 في ألمانيا، عاش حتى عام 1970، حيث أنهى حياته في سويسرا، تزوج من النجمة الهوليوودية السابقة بولين غودارد بطلة فيلم شارلي شابلن الشهير "الأزمنة الحديثة، ظل يكتب حتى فترة متأخرة من حياته. ومن أبرز رواياته الى جانب "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، "للحب وقت وللموت وقت" يؤرخ فيها الهتلرية، و "ليلة لشبونة" وهي تروي رحلىة الكاتب في دروب المنفى، لكنه لايستطيع الهروب من ذكرياته التي تحاصره بكل ماضيه و ما فيه من ألم ممزوج بلحظات سعادة. ورواية "الرفاق الثلاثة" التي تسجل حياة شباب خرجوا من الحرب ليعيشوا حياة جديدة، لكن أثار الحرب تلاحقهم، الرواية التي تحولت الى فيلم شهير بعنوان "صائد الغزلان" الذي حصد عددا من جوائز الاوسكار، واعتبر كواحد من أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما العالمية. 

عبر سطور مؤلفاته الروائية العديدة، قام إريك ماريا ريمارك بعمل غاية في البساطة قلما أقدم عليه الآخرون، فقد وضع المرايا مباشرة أمام وجوه القراء، تلك المرايا المؤلمة التي لم تعكس الوجوه فحسب، بل عرّت الضمائر والنوايا، وكشفت عن بؤس إنسان القرن العشرين وسقوطه في فخ الشر، في عالم مريض مليء بالحروب والعنف ودوامة القتل التي لا نهاية لها.

في سؤال طرحته صحيفة التلغراف على عدد من الكتّاب عن أهم رواية كتبت في القرن العشرين، كانت اجابة الكاتب التركي الشهير يشار كمال: " طلب منّي مؤخّرا تسمية الرواية التي فكّرت أنها أفضل ما يعكس جوهر القرن العشرين، الذي ربّما كان القرن الأكثر إيلاما للبشرية، القرن الذي شهد إهانات لا انسانية، وحروبا عالمية دامية، وجرائم إبادة جماعية. كنت قد تمنيت لو أننا تركنا وراءنا إرثه من المخاوف، والحزن، وفقدان الحسّ تجاه الموت.. ويمكن لرواية " كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، تلك الرواية التي سبق أن قرأتها قبل سنوات، أن تبدو كأنّها كتبت اليوم.

تتطلب مثل تلك الروايات شيئا أكثر من موهبة كبيرة، لأنها كتبت في لحظة خطرة من حياة الإنسان. لنتذكر أنّ هتلر قد أحرق الكتاب في ساحة عامة. وقد فتشوا عن كاتبه أريش ماريا ريمارك للقضاء عليه أيضاً. لكنه نجح في الهرب.

تقول هذه الرواية إنه ليس هناك أيّ أمل للمتورطين في الحرب، يصبحون مرضى بطريقة أو بأخرى. وإذا نجا فرد من الحرب فإنّه يتضاءل وجوده ككائن بشري.، الحرب هي حكم بالإعدام على كلّ الناس والطبيعة، فهي تفسد إنسانيتنا، وضميرنا.

يقف الفن الحقيقي، ضد الظلم والعنف، وضد أيّ نوع من الوحشية. إنّ الفن، هو تمرّد. يحذّر الناس ضدّ الأكاذيب، والقمع، والحروب التي لا معنى لها ولا تنتهي أبداً، وجميع أشكال الشرّ..كتب ريمارك رواية " كل شيء هادئ في الميدان الغربي" " في عام 1928، لتبقى شاهداً تُرسل تحذيرها من جديد مع كلّ إعادة قراءة، في كلّ بعث، وتستمرّ في منح قرّائها القدرة على المقاومة والتمرد على الظلم والطغيان ، ورفض الاستبداد وإعلاء شأن الحياة الإنسانية

******

دوريس ليسينج التي رحلت عام 2013 ظلت خلال الـ 94 عاماً التي عاشتها شاهدة على العصر الحديث بكل تناقضاته وتقلباته.. حياة ابتدأت من الحرب العالمية الأولى وامتدت حتى بداية القرن الحادي والعشرين لترى أفول نجم الشيوعية التي آمنت بها في بداية حياتها لتشاهد على شاشات التلفاز كيف انهار جدار برلين.. سنوات طويلة من زمن الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس الى زمن غوردن براون .

امرأة كتبت ضد العنصرية والاستعمار وناضلت في سبيل فضح جرائم التعرض العنصري واضطهاد المرأة ، عاشت لاتعرف سوى الأدب طريقاً للحياة كتبت بقسوة ضد الاستعمار والرأسمالية والجرائم التي ترتكب باسم الديمقراطية وخاضت معارك لاتنتهي في سبيل الحركة النسوية ، تأتيها نوبل بعد أن سأمت من كل شيء وقررت أن تعتزل الكتابة رافضة عرض الملكة البريطانية بمنحها لقب سيدة الامبراطورية البريطانية حين ردت على صاحبة العرض بأن الامبراطورية لم تعد موجودة.. عاشت حياة أشبه برواية من رواياتها فما بين مولدها بأيران سنة 1919 من أبوين بريطانيين لأب كان يعمل نقيباً في الجيش وأم تمارس مهنة التمريض فتحت عينها لتجد الأب وقد أصيب في الحرب العالمية الأولى فخرج منها مبتور الساق.. لايحظى بحب أمها وإنما بعطفها.. يعشق المغامرة وينتظر أن يرحل بأسرته ليبحث عن الثروة والحياة الجديدة..في جنوب أفريقيا عاشت دوريس حياة شاقة جعلتها تقول عنها في مذكراتها بأنها كانت سنوات الخيبة لكنها تحملتها بشجاعة وكبرياء كانت طفولتها كما تصفها جرحاً مفتوحاً يسير على قدمين مما دفعها أن تجعل معظم أبطال روايتها يعيشون حكايات صعبة وذكريات أليمة مع سنوات الطفولة.. تعترف أن وعيها تفتّح حين قررت أن لاتكون مثل والديها الرجل المقعد والمرأة المريضة بالوساوس.. ألا تقع في شرك النمطية غذّت في داخلها روح الثورة والتمرد على الأوضاع وتعترف:لقد صنعت لنفسي يوتوبيا خاصة كان الأدب جزءاً منها أردت أن أقول للعالم ماذا لو جعلنا الظلم والفقر والحرب أموراً مستحيلة بالتأكيد إن الحياة سوف تكون أجمل وتمتلىء بالناس الرائعين.. تقرر أن تعيش حياة التمرد على سلطة الأم المهووسة بالنظام واحترام التقاليد فتهجر مدرسة الراهبات في الثانية عشرة من عمرها ثم بيت أهلها وهي في الخامسة عشرة من عمرها لتعمل مساعدة ممرضة. تقرأ الكتب التي تستعيرها من الأصدقاء.. إنها سنوات الضياع والحرية والحب. في بداية الثامنة عشرة من عمرها تتزوج من أحد زملائها في العمل. وفي الحياة الجديدة سوف تجد مجتمعاً متغيّراً تواصل من خلاله السعي لتجد ذاتها تنضم الى الدوائر السياسية وتعتنق الأفكار اليسارية ويدفعها حبها للحياة الى مغادرة مجتمع جنوب افريقيا لتبحر صوب لندن فتصلها في العام 1949 وهي تحمل معها طفلاً رضيعاً ومسودة أولى روايتها " العشب يغني" التي تروي فيها حكايات عن التمييز العنصري في جنوب أفريقيا.. وتنشر الرواية عام 1950 لكن كان على دوريس أن تنتظر دزينة من السنوات حتى يحتفي بها الوسط الثقافي في لندن بعد أن تقدم روايتها " الدفتر الذهبي " التي صنعت شهرتها الأدبية وقدمتها كواحدة من المناضلات في سبيل حرية المرأة من خلال تقديم شخصية امرأة عصرية بعمق وتفصيل وقد رأى فيها البعض سيمون دي بوفوار بنسخة إنكليزية 

تكتب في سؤال حول نظرتها لقضايا المرأة :" ما أتمناه هو حصول المرأة على الاستقلال، بحيث لا تكون عبدة للرجل ولا للمرأة المسترجلة. حاولت في روايتي الزيجات بين المناطق الثالثة والرابعة والخامسة أن أخلق امرأة تقترب من هذا النموذج: حرة، ومستقلة، وأما حنونة، إنسانية دون أن تكون عاطفية، وذكية دون أن تكون متعجرفة. " 

مرحلة السبعينيات والثمانينيات مثلت تطوراً جديداً بالنسبة لدوريس حيث تحوّلت كتاباتها الى مرحلة النضوج والتأمل عبرت عنها رواياتها " بيان مجز وخماسية العنف ومذكرات مَن نجا والحب مرة أخرى وتقرير عن الجحيم " حكوائية للتجربة النسائية من الطراز الرفيع روتها بدقة وشفافية بدءاً من الإرهابية عن امرأة برجوازية ضجرت من حياتها والتحقت بصفوف الجيش الآيرلندي ، الى " الجدات" عن سيدتين كل منهما تعيش قصة حب مع ابن الأخرى وصولاً الى أعذب الأحلام التي تقدم لنا فيها نفسها بأنها المرأة القادرة على تصوير أوضاع العالم بلغة شفافة. إنها المرأة التي تركت كل شيء..الأهل والمدن والايديولوجيات لتكتشف الحياة بصورة أكثر نقاء ولتؤكد لنا وهي في الثامنة والثمانين من عمرها إن الإبداع لايشيخ وإن الموهبة الحقيقية تظل ساطعة طوال السنين.

كتب سومرست موم مقالاً عن رواية دوريس ليسينج " العشب يغني " أكد فيه أن هذه الرواية وصفت طبقة جديدة من البشر ، الطبقة التي تعاني من الاضطهاد ، دون أن ينتبه لها أحد ، وقد تنبأ موم بمستقبل ليسينج ، واعتبر نفسه محظوظاً إنه عاش ليقرأ مثل هذا الأدب .

ظل القراء العرب يجهلون أدب ليسينج حتى لحظة حصولها على نوبل ، فصاحبة الخمسين كتاباً لم يترجم من أعمالها قبل عام 2007 سوى القليل وقد أصدرت دار المأمون في منتصف الثمانينيات ترجمة لروايتها " مذكرات من نجا " وفي نهاية التسعينيات نشرت دار الهلال ترجمة لروايتها الاولى " العشب يغني" وبالفترة نفسها تُقدِم إحدى دور النشر على نشر ترجمة لروايتها الشهيرة " الدفتر الذهبي " إلا أن الغريب في الأمر أن القارىء العربي تعرف على دوريس الكاتبة المسرحية قبل أن يتعرف على الروائية فقد نشرت سلسلة المسرح العالمي عام 1966 ترجمة لمسرحيتها الشهيرة " التيه" وهي المسرحية التي قدمتها للمسرح عام 1958 لتنظم من خلالها الى جيل مسرح الغضب الذي أطلق صرخته " جون أوزوبورن" صاحب المسرحية الشهيرة " انظر الى الماضي بغضب" والتي عبر فيها عن الضياع لجيل ما بعد الحرب في بريطانيا. هذا الجيل الذي شهد بشاعات الحرب وخلوها من أي نوازع إنسانية في هذا المناخ تتقدم دوريس للمسرح لتقدم مسرحيتها الأولى والتي عبّرت فيها عن الصراع الذي يقوم في المجتمع بين جيل الغضب وجيل السياسيين المتزمتين وهي لاتفقد معاني طرف لكنها تقدم صورة حية ونابضة لهذا الصراع. فالأمّ " ماريا " عضو في كثير من الهيئات التي تناضل لنصرة قضايا الدفاع عن السلام تجد نفسها في المواجهة مع ابنها " توني" الذي يقرر الذهاب الى الحرب من اللحظة الأولى نرى ملامح الصراع فالأمّ تشكر الظروف التي لم تجعل ابنها يذهب الى الحرب وتقول: " ربما كنت قُتلِت من أجل قضية لاتؤمن بها فيرد الابن:- أن يُقتل الإنسان من أجل شيء يؤمن به هذا بالتأكيد نوع من الترف في هذه الأيام. شيء كان يتمتع به جيلك أم الآن فالإنسان يقتل فحسب.هكذا يعبر جيل توني عن خيبة الأمل في كل شيء. 

تنشدونها.. يا الهي نحن ننجب جيلاً حقيراً يحسب معاشه قبل أن يتخرج من المدرسة.

جيل من صغار البرجوازيين الفقراء نعم أنا أبكي لقد عشت خمسين عاماً أليس هذا وحده سبباً كافياً للبكاء.

توني: افترضي إننا قلنا للسياسيين نحن نرفض أن نكون أبطالاً لقد سئمنا كل القضايا النبيلة فماذا سيحدث يا أمي؟ 

ماري: لاشيء.. الحياة العادية والأمان 

توني: اتركونا وشأننا هذا ماسنقوله.. اتركونا نعيش لانريد إلا أن تتركوننا وشأننا .

وكانت العجوز البريطانية تتحدث بلسان العراقيين حين صرخت في وجه توني بلير: اتركوهم وشأنهم يعيشون لانريد سوى أن تتركوهم وشأنهم.

في آخر حوار معها قالت للمحرر الأدبي لصحيفة الغارديان إنها لاتجد إجابات شافية حول وظيفة الكاتب في هذا الزمن لكنها تعتقد إن :" من واجب الكتّاب، إذا تعاملوا مع مهنتهم بصورة جادة، أن يضعوا أصابعهم على مواطن جروح زماننا، ولكن هذا ليس كافياً. كل منهم يستطيع إيجاد العيوب في الظروف السائدة ومن السهل أن يغدو مثل هذا العمل صرعة. في رأيي، يتحتَّم على المؤلِّف أن يصبح، بعض الشيء، شبيها بالنبي، يقتفي الخلل قبل أن يغدو ماثلاً للعيان، ويفقه الموضوع قبل أن يصبح نزعة سائدة، شاحذاً حسّه وحواسه لاستشعار أدق ذبذباته ".

*****

الرواية تتحدث عن مشكلة الوان . لم أقل حينها ان هذا لم يكن صحيحا . لكن العاطفة التي تمخضت عنها كانت شيئا مخيفا وممرضا 

دوريس ليسينج

في العام 1962 ستنشر دوريس ليسينج روايتها " المفكرة الذهبية " – ترجمت الى العربية بعنوان الدفتر الذهبي - والتي حظيت باهتمام كبير وأثارت كثيراً من الجدل دفع دوريس لأن تقول :" إن الجدل حول الرواية يبدأ منذ يوم مولدها وهكذا بدأ الأمر مع المفكرة الذهبية " 

كانت ترغب أن تكتب عن حياتها ، عن السنوات التي أعقبت الحرب ، وضعت تولستوي نصب عينيها إنها تريد أن تكتب ملحمة قريبة من الحرب والسلم ، تعتبر ستندال وتولستوي بأنهما " أخوايّ في الدم " ، لكنها هذه المرّة لن تكون تاريخاً للحرب ولا للبلدان ، وإنما صورة لحياة امرأة ذكية ، لكنها محبطة .. تقول في مقدمة الرواية :" اعتقد أن الماركسية كانت المحاولة الأولى في عصرنا ، خارج نطاق الأديان السماوية ، لتشكيل قوة أخلاقية عالمية " ..المفكرة الذهبية على حد تعبيرها ليست بوقاً لعملية تحرير المرأة ، إنها تصف الكثير من العواطف الأنثوية وتضع العداء والكره والظلم والتحرر مطبوعاً على الورق .

بطلة الرواية " آنا " امرأة متمردة على واقعها ، كتبت رواية أولى حققت نجاحاً كبيراً لكنها تحتقر هذا النجاح ، وتنظر باستخفاف الى روايتها ، إنها اليوم قد غادرت الشيوعية وأوهامها ، وتريد أن تكتب رواية جديدة ، لكنها بدلاً من ذلك تملأ أربع مفكرات بأربعة ألوان من الملاحظات ، فهناك المفكرة السوداء التي تسجل فيها حياتها في روديسيا ، والمفكرة الحمراء التي تخصصها لحياتها المضحكة والمبكية في نفس الوقت عندما كانت تعمل في السياسة وتتعرض للاعتقال ، والمفكرة الصفراء تكتب فيها رواية عن حياة متخيلة والأحلام التي رافقتها في شبابها ، والمفكرة الزرقاء وفيها نتعرف على مواقف من حياة آنا ونظرتها الى زيف الصحافة وكونها أشبه بجلاد يريد أن ينتقم من الآخرين ، وأخيراً هناك قسم صغير يدعى المفكرة الذهبية وفيه تحاول بطلة الرواية " آنا " أن تولّف بين هذه المفكرات المنفصلة ، لتقدم لنا سرداً أشبه بشريط سينمائي عن حياتها ، حياة دوريس ليسينج . 

وهي تؤكد إن مهمتها كروائية ومدافعة عن حقوق الإنسان كانت :" جزءاً من واجبنا بأن نؤكد لأي شخص وبأية وسيلة مهما كانت صغيرة بأن الحياة ما هي إلا مغامرة رائعة .. أشك إن كان أي شخص من الناس من الذين نتبنّاهم ، سينسون حجم القناعة المطلقة عندنا بعظمة الحياة ، لإننا إن لم نأخذها ، بالإيمان ، سنأخذها بالمبدأ " 

رفضت ليسينج أن توصف روايتها " المفكرة الذهبية " بأنها دفاعاً عن الحركة النسوية ودعوة لتحرير المرأة ، فهي تريدها أن تكون سجلاً لتحولات البطلة وهي تعيش في أكثر من مجتمع ، فيما عدّها النقاد باعتبارها تعبيراً عن التفكك في حياة المجتمع ومحاولة للاندماج والتكامل. فعندما يسأل تومي وهو أحد أبطال الرواية آنا عن السبب الذي يدعوها الإحتفاظ بخمس مفكرات متفرقة، وكان بإمكانها الجمع بينهما في مفكرة واحدة يمكن تقسيمها إلى أقسام أجابت آنا إن هذا سيؤدي إلى نوع من الفوضى ..كما إنها أشبه برحلة أوديسيوس في البحث عن الهوية التي تناسب بطلة الرواية " آنا " في مجتمع بات يرفض الهوية الواحدة ، فالمرأة المتحررة التي تتحدث عنها الرواية لم تعد متحررة بعد كل هذا، فهي في نظر الذين يؤمنون بالزواج ومؤسسته أصبحت تعني العاملة والأم الوحيدة أو تلك التي تقيم علاقات حرة مع الرجال. 

حوّلت " المفكرة الذهبية" دوريس ليسينج الى أيقونة معارِضة تدعو للمساواة بين الجنسين ، تكتب إن :" تقريراً علمياً يدّعي أن النساء كنّ الأصل البشري الأساس وأن الرجال جاءوا معهن متأخرين بكثير"، 

وربما كانت لندن عند صدور المفكرة الذهبية مكاناً قاسياً بالنسبة لإمرأة مطلقة مثل دوريس ليسينج ، إلا أن الادب عرّفها الى مجموعة من كتـّـاب وفنانين غاضبين اطلق عليهم جماعة " جيل الغضب " كانوا يؤسسون لثورة ثقافية وفنية سواء في مجال الرواية او المسرح او الرسم ، وتقول ليسينج عن تلك الفترة " لقد كان وضعاً جذاباً جداً وظريفاً جداً ورائعاً، وكنت أتواجد هناك عصر كل يوم وكنت مستغرقة ، ولسوء الحظ كانت لدي مسؤولية ميؤوس منها فلم أكن أستطيع الخروج ليلاً ولم أكن أستطيع تحمل تكاليف جليسات الأطفال، الحمد لله".

تكتب الروائية مارغريت آتوود :" كانت أول معرفتي بدوريس ليسينج عن طريق روايتها " المفكرة الذهبية " التي حملتها مع كتبي الجامعية في باريس عام 1963 حينما كنت أدرس هناك حيث اعتدت الجلوس يومياً على أحد مقاعد حدائقها لأهضم معها قطعة من التوست الفرنسي التي احتوت على الجبن وكارتونة صغيرة فيها عصير البرتقال ، كان هذا جزءاً من غذائي اليومي الذي وصفه لي الأطباء بسبب ما أعانيه من مرض في المعدة كما كانت تفعل الروائية الإنكليزية أليسون كننغهام التي تعلمت منها كيف أسيطر على ذلك المرض ،إضافة لتلك الرواية التي كانت مهدئاً لنفسي العليلة بما بثته من تجربة غنية مرّت بها الكاتبة ليسينج في حياتها حتى أبدعتها بهذا الشكل من التألق والإبهار . كان انصهاري مع رواية ليسينج شيئاً عجيباً حيث أنستني رجل الشرطة وهو يقف فوق رأسي ليقول لي إن الاستلقاء على مقاعد الحديقة بهذا الشكل يعد مخالفاً للقانون في هذه الساعة ، لذلك كان عليّ أن أجد مكانا آخر لقراءتها ،فكنت أصحبها معي المقاهي التي أرتادها وبعض الحانات ، استطاعت الرواية بالتالي أن تفتح عيني على مشاكل المرأة منذ ثلاثينيات القرن الماضي خاصة ما يتعلق منها بقضية تحديد النسل وحتى قبل أن يشهد عصرنا انتشار التنورات القصيرة ، هي سبقت نقاشاتنا في الكثير من المسائل التي كنا نعتبرها جريئة عند اجتماعنا على مائدة العشاء في تورنتو أيام مراهقتي وكأنها كانت تتنبأ بما سيحصل للمرأة لاحقاً " انها لعبد نفس الدور الذي لعبته سيمون دي بوفوار في الدفاع عن قضايا المرأة زوربطها بقضايا المجتمع " .