آفاق التنوير في الفكر النجفي المعاصر 1-2

Tuesday 27th of August 2019 08:13:21 PM ,
العدد : 4496
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. باقر الكرباسي

تؤلف منطقة (الظهر) – النجف والحيرة والكوفة – بقعة جغرافية واحدة ذات مساحة شاسعة بنيت عليها المقابرُ والقصور والأديرة والقلاع والحصون وغيرها ،

ويعود تاريخها إلى عصورٍ قديمة سبقت الإسلام ، فإنَّ أقدَمَ نصًّ يشُير إلى قِدَمِ أرض النجف يعود إلى عصر ما قبل الميلاد ،إذ أنَّ الملك البابلي (بختنصر 626-539 ق.م) بنى حيراً على النجف وحَصَّنَهُ ثم ضَمَّ القبائل العربية فيه. (1)

وأصبحت مدينة النجف الأشرف الحاضرة جزءاً من هذا الظهر ولذا قيل ظهر الحيرة أو ظاهرها ، كما قيل لها : ظهر الكوفة أو ظاهرها ، ويشير المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ) إلى قِدَمِ الظهر تاريخياً بقولِهِ : ( خرج تبّع في العرب حتى تحيروا بظاهر الكوفة فنزل بها ضعفاء الناس فسميت الحيرة ).(2) 

وقال الشيخ علي الشرقي (ت 1964) :( وكانت في نجف الحيرة قبل الإسلام عمارات وقرى وديارات منها – الصنّين- وهو بلد عامر يقال لصاحبِهِملك الصنّين وهو اليوم بجنب مدينة النجف).(3)

وبعد تأسيس دولة المناذرة في الحيرة أصبحت منطقة النجف متنزهاً لملوكها وامتدت إلى أرض النجف حضارة المناذرة فأنشئت الأديرة والمعابد والقصور عليها وسكن السريان في إطرافها.(4)

ويبدو أنّ منطقة النجف منذ عصر ما قبل السلام والعصور التالية ، أصبحت متنزهاً للملوك والقادة والولاة وقد اتخذها ملوك المناذرة مكاناً للراحة والاستجمام وبخاصة في المناسبات الدينية .(5)

وكانت منطقة النجف يطلق عليها (خد العذراء) ويعلل الجغرافيون العرب سبب إطلاق هذه التسمية على أرض النجف لطيب هوائها وكثرة أشجارها وأنهارها.(6)

يقول المسعودي: (كانوا ينزلون هذه المنطقة ويطيلون المقام بها لطيب هوائها وصفاء جوها وصحة تربتها وصلابتها وقرب الخورنق والنجف منها)(7)

وأشار الشاعر العباسي إسحاق الموصلي إلى هذا المعنى بقولِهِ:

ما أن رأى الناس في سهل وفي جبلٍ 

أصفى هواءً ولا أغذى من النجف

كأنّ تربتَهُ مسكٌ يفوح بِهِ

أو عَنبرٌ دافَهُ العطّارُ في صدفِ

حُفَّت بِبَرٍّ وبحرٍ من جوانبها 

فالبَرُّ في طرفٍ والبحرُ في طرفِ

تلقاك منه قبيل الصبح رائحة 

تشفي السقيم اذا أشفى على التَلفِ

وإذا درسنا الحضارة القائمة في منطقة النجف قبل الإسلام فإننا سوف نكشف عن الوحدة بين النجف والحيرة لأن القصور والمنازلَ والأديرة والقلاع والبيع وأماكن والعبادة وغيرها كانت ممتدة بينها،وهذا يعطينا مؤشراً على وجود حركةٍ علميةٍ ثقافية في عصر ما قبل الإسلام في منطقة النجف ولا شك أنّ هذا البعدَ الفكري تتبعه ظاهرة التحضّر والتمدن في منطقة النجف.

وقد قُدِّرَ لهذه المدينة المقدسة أن تصبح – بعد زمان- محطاً لا نظار العالم الإسلامي يهاجر اليها الآلاف من طلاب الفضيلة للتفقه والاشتغال العلمي، وتتوجه إليها نفوس الملايين من المسلمين من أقطار العالم الإسلامي كافة ، ينظرون اليها بعينٍ ملؤها التعظيم والإجلال وتكون يوماً ما مقراً للإفتاء ومركزاً للمرجعية الكبرى التي تدير شؤون الشيعة في العالم الإسلامي.

يقول الشيخ محمد رضا الشبيبي (ت 1964) (فلا يعرف في بلدان العرب بلدة تجاري النجف بكثرة تخريجها الشعراء خصوصاً في هذه القرون الأربعة ).(9) 

إما العلامة الدكتور حسين علي محفوظ فقد قال عن النجف :( مثابة العلم الجم ، ومعدن الخلق العظيم ، وموقع الرأي الأصيل ، ومقر التراث المجيد ، محل الحكمة والاجتهاد ، ومكان العقل والفضل ، ومظنة الطهارة والنزاهة ، وموضع القدس والتقوى والتنزه والورع والزهد)...

انَّ الفلاسفة والعلماءَ والمفكرين لا يخرجون من رحم الأرض كما تخرج النباتات الفطرية ، وإنما هم ثمار عصرهم ونتاج شعوبهم وهم من العصارة الأرفع شأناً والأثمن ، فمنذ نهاية القرن الثامن عشر أصبحت النجف مركزاً مزدهراً للحوار الفكري ومحجة لطلاب العلم والمعرفة من أصقاع العالم الإسلامي وكونها مصدر جذب للعلماء والمفكرين وفيها نبغوا ،فإنّ المدينة بمكتباتها ومتاجر الكتب فيها ونقاشاتها وحلقاتها الأدبية صارت مع الزمن للعديد من الطلاب والشباب المكان الذي اكتشفوا فيه أفقاً ثقافياً للنهضة العربية الموجودة ومفكريها من إسلاميين ومجددين –علمانيين ويساريين- يتجسد ذلك في نتاجاتهم الشعرية والأدبية والفكرية فقد كان الشعر وقراءته سمير جلساتهم إضافة إلى إدخال المطابع في المدينة منذ عام 1909 أدى إلى زيادة النتاج الأدبي فظهرت تبعاً لذلك الصحف والدوريات وأصبحت أداةً رئيسة لنشر الفكر والمعرفة . 

ومن جهة أخرى كان لوصول بعض المجلات والكتب العصرية من لبنان وسوريا ومصر مثل مجلة العرفان والمقتطف والهلال والعصور الاشتراكية لها الأثر الكبير في تأليف المنظومة المعرفية للشباب النجفي المتحضر وكسر أطواق الجمود عنده،يقول الباحث محمد رضا القاموسي :( من أخصب مراحل الحركة الأدبية في النجف بما حفلت به من صراعات حادة واتجاهات متباينة استطاعت ان تعيش وتتبلور في ظل مجتمع هو نسيج وحده من حيث الأصالة في الفكر والحرية في التعبير والجرأة على الإجهار بالرأي لأنها بيئة محافظة تحكمها مقاييس خاصة وتؤطرها أعراف متميزة).(10)

وفي محاضرة ألقاها المرحوم جعفر الخليلي (ت 1976) في موسم من مواسم الرابطة العلمية الأدبية في النجف عام 1972 عنوانها (العوامل التي جعلت من النجف بيئة شعرية ) قال فيها :( سأل المرحوم طه الراوي- وهو عالم في النحو- طالباًفي المرحلة المنتهية من دار المعلمين العالية عن نائب الفاعل ،فتعثر الطالب في إجابيِهِ عن السؤال ، حينها قال أستاذه الراوي : يا بنيّ لو ذهبت إلى النجف وسألت بقالاً من بقاليها لأجابك عن السؤال مباشرة...)...(11)

وهذه هي النجف حاضرة العلم والأدب ومدينة أمير البلاغة والبيان الأمام علي (ع) منذ تأسيسها حتى اليوم، مدينة النائيني والحبوبي والشهرستاني وكاشف الغطاء والشرقي والشبيبي والجواهري والمظفر ومرتضى فرج الله ومحمد تقي الحكيم وزهير الجزائري وغيرهم ،اذ أنَّ تأثيرهم لم ينحصر على مدينتهم فقط بل تعدى ذلك وانتشر في مدن العراق كلها منذ ثلاثينيات القرن الماضي ولحد الآن ، فما زالت النجف تنتج شعراً ومعرفة وتبثه إلى الجميع....