المتمردون..هذا القرن ثَبُتَ أنه مجنون ، وفاسد - الحلقة 14

Saturday 31st of August 2019 10:24:24 PM ,
العدد : 4498
الصفحة : عام ,

 علــي حســـين

أنا لاأحكم على شخص ولا بيئته .. فالإنسان يوجد وهو كما هو كائن ، وكل ما أريده هو أن أفهمه أو على الأصح أن أتبعه

فرانسواز ساغان 

يا لها من وحش صغير متمرد ، قال الكاتب الفرنسي الكبير فرانسوا مورياك ، وهو يشاهد حيرة الجنرال ديغول بعد أن انتهى من قراءة رواية لكاتبة فرنسية صغيرة في العمر ، أثارت الكثير من الجدل .. قال ديغول إنه يشعر بالصدمة من صراحتها المفرطة .. كان ديغول يقيس جودة الروايات بالمقارنة بينها وبين رواية دون كيشوت التي كان شديد الإعجاب بها ، بعد أيام قليلة من صدور الرواية سيكتب فرانسوا مورياك مقالاً في صحيفة " لوفيغارو"، يشيد بموهبة ساغان ، وستظهر مع المقال صورة لفتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها ممددة على سجادة غرفتها وأمامها الآلة الكاتبة التي تستخدمها في تدوين أفكارها..

كانت الرواية التي صدرت عام 1954 بعنوان " صباح الخير أيها الحزن " بيعت في الأسابيع الأولى أكثر من نصف مليون نسخة .. تكتب فرانسواز ساغان في كتابها " مع أطيب ذكرياتي : في عام 1953 كتبت " مرحبا أيها الحزن " التي نشرت في فرنسا عام 1954 وتسببت بفضيحة .فضيحة لم أفهم منها شيئاً في البدء " ، تتذكر إنها كتبت ذات يوم في دفترها المدرسي :" أنا لا انتمي الى هذا العالم المتزمت بالمرّة ، لا أحب أن أكون ابنة عائلة غنية ، لكنني أتوق بشدة الى زمن أستطيع فيه أن أجرؤ على العيش في وفاق مع نفسي ومع مشاعري وبالتالي مع الحياة " .. كانت قد قرأت مثل هذه العبارة في اعترافات جان جاك روسو التي حذرها والدها التاجر الكبير من الاستمرار في مطالعة مثل هذه التُرهات التي لاتليق بفتاة لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها ، كان الأب قد لاحظ منذ مدة أن ابنته قد تغيرت كثيراً في الأيام الأخيرة ، تبدو مشتتة الذهن دائماً ، تغلق عليها باب غرفتها كثيراً وهي تقول :" إنني بحاجة للوحدة " ، إنه الغرام هذا ما قاله الأب الذي قرر أان يحقق رغبة ابنته ويأخذها الى باريس ، فقد كان يأمل أن تمضي أوقاتاً ممتعة في صالات الرقص ، وتذهب بصحبته الى المسارح ، أو تلتقي بصديقاتها .

في باريس التي وصلتها فرانسواز ساغان يوم السابع من حزيران عام 1953 ذهبت مباشرة الى شارع المكتبات ، كانت متلهفة لشراء مؤلفات ستندال وخصوصاً روايته الشهيرة " الأحمر والأسود ، في رف من رفوف إحدى المكتبات تعثرعلى ديوان الشاعر الفرنسي بول إيلوار ، كانت قد قرأت له من قبل قصائد قليلة ، اختطفت الديوان وبدأت تقلب الصفحات لتقرأ بصوت عال :

" وداعاً أيها الحزن 

صباح الخير أيها الحزن 

اتركني أيها الحزن 

عد اليَّ أيها الحزن 

أنت مكتوب في ثنايا أحلامي 

أنت مكتوب في عيني الذي أحب 

أنت لست البؤس الأخير " 

صباح الخير أيها الحزن

بعد عودتها الى البيت ذهبت مباشرة الى غرفتها أحضرت آلتها الكاتبة، وقررت أن تكتب شيئاً شبيهاً بقصيدة إيلوار "صباح الخير أيها الحزن" وسألت نفسها ماذا تكتب؟، شعر ، إنها لاتجيد كتابة القصيدة، وقد اخبرتها المعلمة ذات يوم أن لغتها ركيكة ، لكنها قررت كتابة الجملة الأولى : "هذا الشعور المجهول حيث الملل والنعومة فيه تسيطران عليّ، أتراجع عن تسميته، عن إعطائه الإسم الجميل والقاسي ألا وهو الحزن. إنه شعور متكامل وأناني الى درجة إنه يشعرني بالخجل، غير أن الحزن يبدو لي مشرفاً. لم أكن أعرفه هو، لكنني عرفت الملل والأسف وبكمية أقل الندم. اليوم، شيء ما تماماً مثل حرير ناعم ومزعج ينطوي عليّ ويجعلني أنفصل عن الآخرين".

في الأخير اقنعت نفسها إنها تستطيع كتابة رواية ، عن الفتاة المدلّلة ، التي كانت تستيقظ آخر النهار ، تشعر الآن بأن هناك أشياء في حياتها يجب أن يعرفها الناس ، أغلقت الآلة الكاتبة ، وبدأت تكتب بقلم رفيع على أحد دفاترها المدرسية ، تكتب كل ما كانت تخاف أن تبوح به . تجاربها البسيطة في الحياة ، معاناتها مع أب يُغير العشيقات كل شهر ، عن الأم التي تهمل أبنائها ، الكتابة ستكون بصيغة " الأنا " البطلة فتاة مراهقة اسمها سيسيل سيأخذها والدها الى باريس :" لم أجرب الكثير ، هو سيريني باريس ، والترف والحياة بجوانبها الضعيفة والجميلة معاً " أرادت الفتاة فرانسواز ساغان أن تكشف مخزونها للناس :" لقد أدركت أن حياة الناس تشكل إحدى الوسائل الضرورية التي توفر إمكانية تحقيق الذات ، لقد تذوّقت المتعة بزج نفسي بين الحشود ، أشرب وأجلس مع إنسان ، استرق النظر إليه ، وآخذ بيديه خارجة من هذا الحشد البشري ، لقد وجدت المتعة ، في طعم القُبلة ".

كانت فرانسواز ساغان تريد شيئاً واحداً هو أن تعيش كما يحلو لها ، وتضع مقاييسها بنفسها ، وهذا ما فعلته .. سترفض العائلة أن تضع ابنتها المراهقة اسمها الحقيقي فرانسواز كواريز ، وقد فكرت طويلاً في اختيار اسم بديل لاسمها ، كانت قد قرأت أن ستندال فعل نفس الشيء ، فهو لم يكن يدعى ستندال وإنما " ماري - هنري بيل " ولكنه اخترع هذا الاسم لكي يشتهر به في عالم الأدباء. .اختارت فرانسواز اسماً مستعاراً استمدته من أعمال مارسيل بروست .. في باريس ، المدينة الضاجة اكتشفت أن وظيفتها الأهم أن تصبح كاتبة مشهورة ، قرأت في سيرة ستندال إنه جاء الى باريس مثلها عندما كان في السادسة عشرة من عمره ، ومثلها حاول ولده أن بمقدوره 

أن يصبح كاتباً ، لكن الأب المحامي كان يجد في ابنه البدين ، يفتقر الى اللياقة الاجتماعية. نرجسياً متفاخراً بنفسه ، يصنع الأكاذيب والاسماء المستعارة .

****

لم لا ؟ أن للحلم المُلحّ معنى ، وأحيانا يتحقق 

تنيسي ويليامز

في الثانية عشرة من عمرها سترهق أمها بمسرحيات تاريخية وميلودرامية ، كانت الام برغم حبها لابنتها إلا إنها تشعر بعد ساعة من الضجر ، فهذه الفتاة ترطن باسماء غريبة ، وبدلاً من التشجيع كانت تتلقى من أمها تعليقات مُحبِطة ، ستتذكر هذه المواقف بعدما طلب منها الناشر عام 1960 أن تجرب حظها في المسرح ، كانت قد سافرت عام 1955 الى أميركا في رحلة ، حيث أراد الناشر أن يقول للاميركان الذين اشتروا مليون نسخة من روايتها إن صاحبة الرواية لم تكن سيدة عجوز ، بشعر أشيب ، وإنما فتاة جميلة تشبه ممثلات السينما ، هناك ستلتقي بعدد من الكتاب ، لكنها كانت تبحث عن كاتب واحد فقط ، لم يكن يسكن نيويورك وإنما فلوريدا ، همست بامنيتها للناشر الأميركي ، ولم تكن تتوقع أن برقية ستصلها من ويليامز يدعوها لزيارته في منزله ، في يومياتها تقدم لنا ساغان وصفاً للكاتب المسرحي الشهير الذي كان يعد آنذاك أبرز كتّاب المسرح في أميركا :" في الساعة السادسة والنصف مساء أبلغنا أن تنيسي ويليامز وصل . وصل إذن رجل قصير بشعر أشقر ، عيون زرق ونظرة لاهية ، الذي كان منذ وفاة ويتمان بقى أعظم كاتب اميركي ، كانت وراءه امرأة طويلة القامة ونحيفة ترتدي شورتاً ، عيناها بركتان من أزرق بنظرة شاردة ، ويدها مثبّتة بلويحات من الخشب ، هذه المرأة التي كانت بالنسبة لي عندئذ الكاتبة الأفضل في أميركا ، وعلى أي حال الأكثر حساسية : كارسون ماكالرز ، عبقريتان متوحدتان ، متمردتان " .

كانت فرانسواز ساغان قد قرأت وهي في مدرسة الراهبات رواية كارسون ماكالرز " القلب صياد وحيد " وهي الرواية التي يقال إنها بالنسبة للادب الاميركي مثل الروسي غوغول الذي دائماً ما يُقال أن الأدب الروسي خرج من إقصوصته المعطف ، فالجميع يقول إن الادب الاميركي في النصف الثاني من القرن العشرين خرج من تحت قلب ماكالرز ، حيث كانت روايتها تمثل لوناً جديداً من الأدب ، قدمت أبطالاً متمردين على واقعهم ، ومثل ساغان كانت كارسون ماكالرز فتاة مراهقة عندما جربت حظها في الكتابة بعد أن فشلت أن تحقق حلم حياتها وتصبح عازفة بيانو .. ومثل ساغان كانت فرنسية الأصل ، ومثلها كانت تتشبه بالصبيان فكانت تقص شعرها قصيراً، وترتدي بدلات الفتيان في معظم الوقت.. وتتذكر ساغان عند قراءتها " القلب صياد وحيد " إنها كانت ترى في ملامح بطلة الرواية " مايك كيلي " ملامحها هي نفسها .. التمرد على الواقع المحيط بها ، ومثل ساغان كانت ماكالرز قد استوحت روايتها من تفاصيل حياتها . . حيث تناولت شخصيات مستقاة من أناس عاشت معهم في طفولتها ومراهقتها ، حيث تدور أحداث الرواية في بلدة ريفية أثناء فترة الكساد الاقتصادي الشهير الذي حصل في أميركا في ثلاثينيات القرن العشرين . وقد رسمت كارسون ماكالرز معالم حياتها من خلال علاقة صداقة تقوم، بين مجموعة من الأصدقاء ، حيث نتتبع حياة الفتاة المراهقة مايك كيلي، التي تبلغ من العمر أربعة عشر عاماً ، والتي نجدها في الرواية متمردة على الحياة البائسة التي تعيشها مدينتها الريفية ، وهي تلتقي بجاك بلاونت، المدمن على الخمر الذي يقضي وقته في المقاهي ، وهناك كوبلاد الطبيب الأسود يسعى الى مساعدة السود وحثهم على التمرد ضد الأوضاع البائسة التي يعيشونها ، وأخيرا نلتقي بجون سنغر، الشاب النحيل، الذي يعاني من الصم والبكم ، وفي الرواية يتحول مثل شاهد يعترف الجميع أمامه رغم إنه لايسمعهم ولايستطيع أن يكلمهم ، لكن كل شيء مسموح به القول أمام سنغر ، إنها رواية عن الأمنيات غير المتحققة وحالة اللاتواصل بين البشر ، وأيضا حالة العجز التي يعيشها شنغر الذي يعاني من مشاكل كبيرة لكنه لايستطيع البوح بها ..تكتب ساغان في يومياتها بعد قراءتها " القلب صياد وحيد " إنها " رواية تكشف العزلة الروحية للإنسان ، وكيف يحاصره المجتمع .. حين صدرت رواية كارسون ماكالرز " القلب صياد وحيد " ، كان وقعها مثيراً على الحياة الأدبية في أميركا حتى أن وليام فوكنر يكتب إن صاحبة الرواية تملك قلباً يسكنه شيطان .

في تجاربها المسرحية الأولى كانت ساغان تطمح لأن تصبح كاتبة مسرحيّة مثل كاتبها المفضل تنسي ويليامز وعندما شاهدته للمرة الأولى ستُلقي على مسامعه واحدة من حوارات " بلانش دوبوا بطلة " مسرحيته الشهيرة عربة اسمها الرغبة ، الفتاة التي تمردت على عائلتها فاضطرت أن تلجأ للسكن مع شقيقتها ستيلا ، هناك ستدور المعركة مع زوج اختها ستانلي الذي أدى دوره على المسرح الممثل العبقري مارلون براندو وسيقدم الدور نفسه فيما بعد في السينما حيث ستؤدي فيفيان لي دور بلانش .

يعتبر النقاد تنيسي ويليامز واحداً من أعظم الكتّاب المسرحيين في العالم ، فيما البعض يعتبر أن مسرحه يقدم نموذجاً للبطل العنيف وهو يواجه المجتمع ويعترف ويليامز بأن أعماله المسرحية تتضمن الكثير من العنف والعصبية والتمرد وأيضاً الجنس ، لكنه يفسر بأن الدافع الذي يدفعه الى الكتابة هو معالجة الأطوار الغريبة والمواقف التي يعيشها أشخاص يجدون أنفسهم في مواجهة مجتمع يريد أن يمسخ شخصياتهم يكتب في مذكراته – ترجمها الى العربية أسامة منزلجي - :" لا استطيع أن أكتب عن الناس العاديين أو المواقف الرتيبة في الحياة .. وإذا كانت شخصياتي تسلك سلوكاً مستفزاً مثيراً ، الى حد الإفراط والتطرّف ، فما ذلك إلا لأن من شروط المسرحية الناجحة أن نكثّف حوادث الحياة ، ليصبح في الإمكان تصويرها تصويراً دقيقاً واستيعابها كلها " .

عندما توفى تنسي ويلياكز عام 1983 تكتب فرانسواز ساغان في مقال مؤثر :"كيف مت أنت ، ياشاعري المسكين ، أنا لا أعرف أي مهانات تعرضت لها ، وما إذا كنت مت كما تمنيت ، موتاً متميزاً ، أنا افتقدك ياشاعري ، وأخشى أني سأفتقدك لزمن طويل جداً .

****

أحداث " صباح الخير أيها الحزن في مقاطعة سانت تروبيز ، حيث استأجر والدة الفتاة سيسيل قصراً كبيراً ليقضي فيه عطلة الصيف مع صديقته " ألزا " ، إنها رفيقة مريحة وجذابة ومتحررة ، كما اصطحب معه ابنته سيسيل التي تخبرنا إنها :" في ذلك الصيف، كنت قد بلغت السابعة عشرة وكنت في غاية السعادة. أما "الآخرون" فكانوا أبي و"ألزا"، عشيقته. عليّ أن أشرح وبسرعة هذا الوضع لأنه قد يبدو على شيء من الخطأ للوهلة الأولى. كان والدي في الأربعين، وكان قد ترمّل قبل خمسة عشر عاماً. كان رجلاً شاباً، مليئاً بالحيوية، وبالاحتمالات، ولدى خروجي من المدرسة الداخلية، قبل عامين، لم يكن بإمكاني عدم تفهّم أنه يعيش مع امرأة. لكنني تقبّلت وبصعوبة كبرى فكرة أنه يغيّر عشيقته كل ستة أشهر! لكن سرعان ما تأقلمت مع جاذبيته ومع حياته الجديدة والسهلة. كان رجلاً خفيفاً، صادقاً في أعماله، دائم الفضولية وسريع العطب ويروق كثيراً النساء " .

في تلك الأثناء تتعرف سيسيل على الشاب سيريل ، وهذه المرّة الأولى التي تجد من يهتم بها ، لأنها كانت تجد الرجال عنيفين ومزهويين بقوتهم ، لكن سيريل شخص مختلف ، لقد أثار إعجابها .ولأن الأب عاشق للنساء فقد قرر أن يستضيف مصممة الأزياء آنا لارسن ، وهي امرأة مختلفة بثقافتها وأناقتها عن النساء اللواتي اعتادت عليهن سيسيل فنراها تبدي إعجاباً شديداً بآن، وسرعان ما تستحوذ " آن " على سيسيل وتقرر أن تجد لها عملاً، فهي لم تنجح في امتحان البكالوريا في ذلك العام. و"آن" تنظر بعين ناقدة إلى مغامرات سيسيل مع سيريل، وهو طالب يقضي عطلته في تلك المنطقة. الأب يبدأ بالتخلي رويداً رويداً عن ألزا ويصبح متعلقا بـ"آن". وقرر أن يتزوج منها ، ولذلك تتخوف سيسيل من فقدان حريتها لأن حضور هذه المرأة الذكية والهادئة سيزعزع وجودها الى جانب أبيها . لذلك بدأت تعمل، بسبب غيرتها على دفع صديقها سيريل إلى أن يخوض مغامرة غرامية مع ألزا لإثارة مشاعر أبيها. وهذا ما سبب استفزازاً كبيراً له بحيث لم يعد يتحمل هذا الاستفزاز. وينزعج كثيراً من مغامرة ألزا مع شاب مراهق أكبر من ابنتها قليلاً، حيث سرعان ما يعود إلى أحضان حبيبته القديمة. تفاجئهما " آن "عن طريق الصدفة. فتقرر الانتحار لتلقى حتفها في حادث سير. سيسيل وأبوها يعودان إلى حياتهما العادية الهادئة لكن الفتاة المراهقة تكتشف مشاعر جديدة وهي: الحزن. تقول في الرواية "عندما أكون وحيدة في سريري، في الفجر، مع الصوت الوحيد لصخب السيارات في باريس، تخونني ذكرياتي، ويعود الصيف ومعه جميع ذكرياتي. آن... آن ! أقوم بتكرار هذا الاسم بصوت منخفض مع نفسي في ظلام الليل. شيء ما يصعد في أعماقي وأنا استقبل هذا الاسم مغمضة العينين: صباح الخير.. أيها الحزن". وعلى الغلاف الأخير للرواية كتب الناشر التعليق التالي" كان في صيف 1954. سمعنا لأول مرة الصوت الجاف والسريع لهذه "الطفلة الصغيرة الساحرة"، التي ستُحدث فضيحة. 

كل ذلك من نسيج خيال فتاة لم تمر بتجارب حياتية من قبل ، فتاة اسمها فرانسوا كواريه ، ولدت عام 1935. وكان والدها مهندساً يدير شركة للكهرباء.أمّا والدتها فقد كانت امرأة مرحة، عاشقة للحياة، ومقبلة على ملذّاتها بلا تحفّظ. لذا لم تكن تهتمّ بالشؤون المنزلية وبتربية أطفالها. .قضت سنوات طفوتها متنقلة بين باريس والريف الفرنسي ، وعندما بلغت الثالثة عشرة من عمرها التحقت بمدرسة الراهبات في باريس ، في المدرسة تنصرف للقراءة ، حيث ستكتشف أعمال أندريه جيد ومارسيل بروست ، وقصائد الشاعر أرثر رامبو ، لكنها لم تحب حياتها في المدرسة التي كانت أشبه بدير ، حيث كانت تراى نفسها أشبه بسجينة ، تطرد من المدرسة بسبب عدم احترامها للقيم الروحية ، كانت تهرب من المدرسة لتجلس في مقاهي سان جرمان والحي اللاتيني تكتب في دفتر يومياتها : إن ما يشدّني الى العيش هو أن احرق حياتي ، وأن اشرب لأبقى في حالة من النشوة ، واعتقد أن الحياة بلا تمرد لا قيمة لها " ..عام 1951 تحصل على شهادة الدراسة الاعدادية .. تدخل السوربون لدراسة الأدب ، لكنها تفشل في الحصول على الشهادة الجامعية ، فبعد ثلاث سنوات دراسة شعرت بالضجر ، فقررت أن تتفرغ للكتابة 

عندما انتهت من الرواية بعد أسبوعين عرضتها على صديقتها فلورنس ابنة الكاتب المعروف أندريه مالرو ، وكانت في قرارة نفسها تجد أن ما كتبته رديء جداً ، لكن الصديقة وجدت الرواية ممتهة فتقنعها بأن يذهبا الى إحدى دور النشر ، لتجد الفتاة الصغيرة إنها كتبت رواية عن الحب ، شرع بالقراءة على أمل أن ينتهي منها سريعاً ، لكنه ما أن أكمل الجزء الأول حتى صرخ " إنها قنبلة " ، لكن عندما سمع والدها بذلك طلب منها أن لا تضع اسم العائلة على غلاف الرواية " فقررت أن تستعير اسم إحدى شخصيات مارسيل بروست الدوقة ساغان ، فكتبت على الغلاف صباح الخير أيها الحزن تأليف فرانسواز ساغان 

بعد شهر من صدور الرواية حققت مبيعات مذهلة ، ، إذ بيعت مليون نسخة فقط في الولايات المتحدة ، وقد فتح ذلك الأبواب لشهرتها التي لم تأفل أبداً. لكنها ملّت من هذا النصر حيث قالت: " لقد أصبح عندي الكثير من تلك النجاحات الصغيرة ذات الوقع الأبدي" . إن البنت الصغيرة التي اختارت اسماً مستعاراً، و قد ربحت الرهانات أخيراً .لتصبح الكاتبة الفرنسية الاكثر مبيعاً خلال نصف قرن، ظلت خلاله ترسم الحياة الشاعرية لبرجوازية عاطلة ، تبحث عن المشاعر الدافئة وعن الحب الذي ضاع وسط هموم الحياة اليومية. 

تعترف فراسواز ساغان بأنها عاشت حياة عاطفية مضطربة وهي تقول في حوار صحفي : ''الحب.. مثل المال لابد من صرفه''، والحب المفرط للحياة تسبب لها في خيبات عاطفية كثيرة خرجت منها متألمة مجروحة.. مهزومة ومع ذلك فهي لم تستسلم وأصرت على التأكيد بأنها تعلمت ''أن تركب الفشل. لتسير فوقه في اتجاه السعادة'' مؤكدة: ''إنها عاشت الحياة أكثر مما كتبتها'' مضيفة ''إن العذاب والألم والشقاء لا تعلمنا شيئاً.. ولذلك ارتميت في أحضان الحب .. حتى ولو كان وهماً''.

كانت أول تجاربها في الزواج حين ارتبطت بالناشر غاي شولار الذي كان يكبرها سنّا، غير أنه كان يتمتع بجاذبيّة تفتن النساء. معه كانت تتعامل كما لو أنه والدها. ثم لم تلبث أن انفصلت عنه لتتزوج من النحّات الأميركي جون غرواي الذي سرعان ما توفي بسبب المرض . ورغم حياتها المضطربة والمتقلبّة ظلت فرانسواز ساغان تكتب بحماس عن نموذج الفتاة المتمردة 

عندما تجاوزت سنّ الأربعين بدأت فرانسواز ساغان تتعب من الحياة المضطربة والعاصفة التي كانت تعيشها، وأصبحت تنفر من السّهرات ومن النوادي الليليّة. وكانت تقول لأصدقائها بأنها تفضّل " العودة الى حياة الروايات الرومانسية ، الحياة البسيطة المليئة بالحب .

وفي السنوات الأخيرة من حياتها ازدادت متاعبها الصحية والنفسيّة. والذين زاروها وجدوا أنفسهم أمام امرأة محطّمة تسير الهوينى وتصر على الحديث عن الحب المفقود ، واتفقت مع ناشر أن تعطيه كتاب عن فلسفة الحب كما تفهمها ، وعندما يهبط الليل كانت تواصل الكلام من دون أن تشعل الضوء. وظلت على هذه الحالة إلى أن توفيت في الرابع والعشرين من أيلول 2004 تاركة وراءها ديوناً بلغت مليون يورو ، ومخطوطة كتاب بعنوان " أحاديث عن الحب الذي لم أعشه " .

يكتب تنسي ويليامز عند قراءته " صباح الخير أيها الحزن " : إنها رواية تؤشر لعصرنا الذي لا يريد أن يمنح ثقته بالمختلفين