تـوظـيـف الأفـكــار ...

Saturday 14th of September 2019 06:37:13 PM ,
العدد : 4506
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. لاهاي عبد الحسين

يردد كثير من التدريسيين وطلبة الجامعات العراقية في مختلف الاختصاصات الإنسانية وغير الإنسانية فكرة "توظيف الأفكار" والتي تعني أولاً وثانياً وثالثاً "تطويع الأفكار"،

لإستخدامها لتفسير حدث ما أو ظاهرة. ويسري هذا في مجال العلوم الاجتماعية والتاريخية والفلسفية والسياسية وحتى العلمية التطبيقية عن طريق استقدام النظرية لتطبيقها وفي أحسن الأحوال "تعريقها"، أي جعلها عراقية لتنسجم مع متطلبات الحياة في المجتمع العراقي. الحقيقة، فإنّ توظيف الأفكار أو النظريات بهذا المعنى يشهد على العجز والتسليم بعدم القدرة على الإبداع والإتيان بجديد. ويشهد كذلك على شيوع أحد أكثر سلبيات الطريقة التقليدية التي يلقن الطلبة بها ليصبحوا مجرد متفهمين لما ينتج من أفكار وقادرين في أحسن الأحوال على شرحها وتطبيقها. بالنتيجة، تحول فكرة من هذا النوع دون خلق بيئة تساعد الأجيال الجديدة والقديمة على السواء للتجدد والإبتكار.

ترتبط هذه الفكرة بمستوى التقدم العلمي والفكري الذي تمّ تحقيقه في المجتمع. فالتوظيف خطوة ولكنّه خطوة نحو التجميد والخضوع والإمتثال والتبعية لرأي الآخر. كما إنّه يعتبر من بقايا ثقافة وعقيدة النظام الاستبدادي الذي يواظب على الحضور وإنْ مضى زمنه والمصمم إلى إخضاع مؤسسات الفكر والأكاديميا للحد من التطور والخروج إلى مديات واسعة تتيحها حرية التفكير والنقد والتساؤل. تنقل فكرة التوظيف إلى الطلبة بالصرامة والتشديد اللازمين من خلال نظام الإمتحانات والمحاضرة التقليدية مما يحول دون تقدم يذكر خارج السائد والمتداول والمألوف. تقف ممارسة من هذا النوع دون تحقيق التراكم العلمي المطلوب بسبب التوقف وفقها عند ما أنتجه الآخرون وإنفاق الوقت والجهد لتقليبها والنظر فيها والعودة إليها والتمسك بها. ولعل الخطورة فيها أنّها تتحول عبر الزمن إلى قواعد عمل وتقليد سائد مما يجعل من التخلص منها تلقائياً أمراً صعباً بسبب وجود حشد من المتعبين أو العاجزين عن الخروج عليها مما يتطلب التدخل لمعالجة تأثيراتها السلبية. ويمكن القول أيضاً إنّ توظيف الأفكار الوليد الطبيعي لسياسة الحفظ والتلقين التي تمارس على مستوى المؤسسة التعليمية بمختلف مستوياتها في التعليم الأولي الإبتدائي والثانوي وكذلك الحال في التعليم الجامعي والعالي. 

التواضع حسن ولكنّه عندما يصبح عقبة في طريق القدرة على الإنعتاق من التبعية الفكرية لإنتاج الأفكار أو الحوم فيما حولها يصبح سيئاً وغير ذي جدوى. وهذا بعض مما تؤدي إليه فكرة "توظيف الأفكار"، التي تفشل في أنْ ترى أنّ للحقيقة أوجهاً متعددة وليس وجهاً واحداً فقط. يؤدي الإنشغال بتوظيف الأفكار في الأقل إلى تطبيقات مشوهة. 

تشير تجارب المخلدين من المفكرين أنّهم من فئة الأشخاص الذين لم يسلموا بفكرة توظيف الأفكار سواء أدركوا ذلك أو لم يدركوا. كان أولئك الأشخاص من النوع الذي رفض البقاء حبيس ما قرأ وتلقى. وهذا ما حصل مع ابن خلدون على سبيل المثال ممن صنع منظومة من الأفكار والمفاهيم التي صارت علامة فارقة ترتبط به وتميزه عن كل ممن سبقه. نجد هذا في مفهوم "العصبية"، وقوله "الرياسة في أهل العصبية"، والتي شبهها الوردي بالحزب السياسي حسب المفاهيم الجديدة، ومفهوم "العمران البشري"، الذي حظي بالإعتراف الدولي على أنّه السبق الذي حققه ابن خلدون بتقديم العلم الجديد الذي أطلق عليه أوكست كومت فيما بعد التسمية الشائعة اليوم، "علم الاجتماع"، في حوالي منتصف القرن التاسع عشر. 

يلاحظ أنّه ليس من قبيل "توظيف الأفكار"، أنْ ينجح الباحث أو العلّامة في صياغة مفهومات تقوم على إنجاز تم تحقيقه من قبل. فالعمل العلمي تراكمي بطبيعته. وهذا ما يبرر أنْ تقدم لفكرة رأس المال الماركسي صيغ متعددة مثل رأس المال الاجتماعي الذي يرتبط بشبكة العلاقات الاجتماعية ونوعيتها ورأس المال الرمزي الذي يرتبط بالسلوك والمظهر وطريقة تقديم الذات، إلخ. وكذلك الحال بالنسبة إلى النظرية النسبية لأينشتاين في مجال الفيزياء التي ألهمت المشتغلين في مختلف المجالات ومنها العلوم الإنسانية حتى أنّها شهدت رواجاً لفكرة النسبية الاجتماعية في محاولة لخفض حدة النزاعات بين الجماعات المتعددة في المجتمع الواحد والتشجيع على تبادل الاحترام والمحافظة على حدود النسق لكل منها. عراقياً، قدر لعلي الوردي أنْ يكون أول من تناول نظرية ابن خلدون بالدراسة والتحليل العلمي لينال فيها درجة الدكتوراه في علم الاجتماع عام 1950. قدم الوردي حزمة من المفهومات التي أستلهم فيها الإرث الخلدوني إلى جانب الأخذ من النظريات الاجتماعية الحديثة التي سادت في زمانه وفي مقدمتها نظرية التفاعل الرمزي. فكان أنْ قدم ما أصطلح عليه بالفرضيات الثلاثة: صراع الحضارة والبداوة والتناشز الاجتماعي وازدواج الشخصية. وأعقبها بعد ذلك في دراسات لاحقة بحزمة اضافية من المفاهيم التي حاول من خلالها المساعدة على تفهم طبيعة المجتمع العراقي. من هذه المفاهيم: "الشفاعة"، لتفسير حاجة الجماعة إلى وسيط بين أعضائها وبين الإله الذي تؤمن به كما يفعل الشيعة اليوم معبرين عن ذلك من خلال تعلقهم بأئمتهم. وهناك مفهوم "التغالب"، الذي يمثل أحد بقايا ثقافة البادية والذي ظل صامداً حتى بعد الإنتقال إلى الحاضرة. وكذلك الحال في مفهوم "الغنيمة" الذي لا يزال يجد تطبيقات له في مجتمع المدينة. وقدم الوردي فكرة "الوعي الجماعي"، كبديل لفكرة "الوعي الطبقي"، لتفسير ثورة العشائر عام 1920 ضد قوات الإحتلال البريطاني، مؤكداً على مشاركة الجميع وتحملهم مسؤوليات متكافئة بغض النظر عن مقدار الملكية الاقتصادية والمكانة السياسية لكل منهم. ويستخدم الوردي مفردة شعبية متداولة، "خطية"، التي يبرر من خلالها صعوبة الإنتقال إلى دولة المواطنة والقانون بسبب الضغط الذي تمارسه الجماعة على المؤسسات المعنية التي تحول دون تطبيق صارم وقطعي للقانون يؤسس لدولة حديثة. وكذلك الحال بفالح عبد الجبار الذي أطلق فكرة "مستعمرة العقاب"، لتفسير ما حصل من تجاوزات بحق من تخلف أو فشل في التعاون ودعم عناصر الدولة الإسلامية "داعش"، عشية سيطرتها على أجزاء واسعة من العراق. وأطلق عبد الجبار مفهوم "التقدم إلى الماضي"، لإجمال الطريقة التي طور فيها الدواعش فلسفتهم في الإرهاب. يتجلى إبداع عبد الجبار على هذا الصعيد في أنّه قلب المعنى التصاعدي لفكرة "التقدم"، الشائعة والمعروفة لتفسير التراجع والعودة بإصرار إلى الوراء.

الخلاصة، الأفكار ليست مطية نركبها ولا "باتروناً" نفصّل عليه. تأتي الأفكار نتيجة عمل نظري ومنهجي منظم يقود من يعمل عليها إلى الإتيان بجديد دون أنْ يعني هذا الجديد أنّه فريد وغير مسبوق، بالضرورة. إذ يمكن أنْ يكون بناءاً على ما تقدم برؤية جديدة وطريقة تقديم غير مطروقة. لعل احدى طرق التحرر من سجن "توظيف الأفكار"، السماح بتطوير المحاضرة العلمية المنهجية لتكون أكثر مرونة وتقوم على المشاركة والحوار البيني بين الطالب والأستاذ وتشجع على التعبير عن الرأي بعد التأكد من الإحاطة بمقوماتها الجوهرية. سيكون لزاماً على الجامعة كمؤسسة أكاديمية أنْ توفر للبحث العلمي والباحث فرصاً أفضل وأوسع ولا تكتفي بالإملاءات الشكلية والفورية التي سرعان ما يضطر الطالب للتحايل عليها بسبب آنيتها كما في اشتراط أنْ يقوم الباحث في مرحلة الماجستير والدكتوراه بنشر بحث علمي في مجلة علمية. ما يحدث أنْ تتعاطف إدارات هذه المجلات لتعطي هؤلاء الطلبة موافقة على النشر لقاء مبلغ من المال لتلبية الشرط المطلوب. قاعدة ممتازة بحد ذاتها بيد أنّ التحايل عليها لفوقيتها أفرغها من مضمونها. معروف أنّ الهدف من تشجيع الطالب في مرحلة البحث للنشر في مجلة علمية والمشاركة ببحث أو بحثين على الأقل في مؤتمر علمي كما يجري في الجامعات الأوروبية يهدف إلى إظهار قدرة الطالب على تطوير الفكرة وليس مجرد استلال جزء مما كتبه/تها في رسالته أو أطروحته. ويخضع هذا لتحكيم علمي محايد من قبل لجان ليس للطالب صلة مباشرة أو شخصية مع أي من أعضائها لضمان التأكد من مصداقية العمل وجدته. 

سيبدع الطلبة والمشتغلون في كل ميادين العلم والعمل صغيرها وكبيرها عندما يشجعون على البحث عن الحقيقة بسعيهم وجهدهم وضمن ميدان واسع من حرية البحث والتقصي. لكنّهم سيخنقون حتماً عندما يطلب منهم ويضغط عليهم للعمل وفق السائد والمألوف. ليس في التبجح والتظاهر والعجرفة الجوفاء ما يبعث على السعادة إنّما ليس في التواضع والخفض والإنسحاب ما يبعث على السعادة أيضاً.