الإمام الحسين من وجهةِ نظرٍ أخرى .. قاعدة أم استثناء؟ 2-2

Monday 16th of September 2019 06:41:38 PM ,
العدد : 4508
الصفحة : آراء وأفكار ,

محسن كديور

ترجمة: حسن الصرّاف

القراءة التاريخية النقدية

في القراءة الثالثة لقضايا عاشوراء وكربلاء والإمام الحسين لا أهميّة لنيل الثواب

ولا أصل لمبدأ النضال. إن الرؤى في هذه القراءة تشمل منظومة المعارف الإسلامية والتعاليم الشيعية برمّتها، بحثاً عن المكانة الواقعية للإمام الحسين. وفيما يلي عرض مقتضَب لأساسيات هذه القراءة:

أوّلاً: إن قرار الإمام الحسين في عدم البيعة مع السلطان الجائر، ومصادرته لمتاع القافلة الحكومية، وسعيه لتأسيس حكومةٍ في المدينة تكون مستقلة عَمَّن يزعم خلافة المسلمين وبدعوةٍ من أهل الكوفة والبصرة، وذهابه في نهاية المطاف إلى خيار الحرب والاستشهاد، وأسر أهل بيته عند مواجهته جيش الخليفة الذي خيّره بين ذلّة البيعة مع الجائر والموت، كلّ ذلك لا يُعدّ «قاعدة» في تاريخ الأئمّة، بل إنه «استثناء». ويمكننا أن نزعم بأن الاصطفاف بين يزيد بن معاوية (26_64هـ) _بصفته مظهراً للقساوة والرجس_ والحسين بن علي (4_61هـ) _بصفته مظهراً للفضائل والكمال الإنساني والخصال الفريدة_ لم يحدث في تاريخ أيّ واحدٍ من الأئمّة، وهذا زعمٌ لا يمكن إبطاله. إن الأئمة بحسب النظرة التقليدية كلّهم نورٌ واحد؛ فالتباين إذن يعود لمجرّد الظروف الزمانية. ويصعب كثيراً أن نُثبِت بأن الخلفاء المعاصرين لسائر الأئمّة كانوا يمتلكون الحدّ الأدنى من شروط الحاكم العادل. إذا كان الإمام علي (و: 23 ق.هـ _ ت: 40هـ) بايع الخلفاء الثلاث الأوائل «وفي عينه القذى وفي حلقه الشجى»، وإذا كان الإمام الحسن بن علي (3_50هـ) أبرم مع معاوية بن أبي سفيان _وهو أوّل من حوّل الخلافة إلى ملكية_ معاهدةً للصلح مُكرهاً ومضطرّاً، وإذا كان الإمام علي بن الحسين زين العابدين (38_ 95هـ) لا يجد ملجئاً من مضايقات عصره سوى الدعاء والمناجاة، فإنّ الفترة الطويلة نسبياً التي عاشها كلّ من الإمامَين محمّد الباقر (57_114هـ) وجعفر الصادق (83_148هـ) والتي تزامنت مع الفترة الفاصلة بين الخلافتَين الأموية (41_132هـ) والعباسية (132_656هـ)، تُعَد أفضل فترةٍ يُمكن أن نتلمّس فيها منهج الأئمة، ولنتأكّد من منهج الإمام الحسين، أَ كان قاعدة أم استثناء؟ إن هذين الإمامَين، ولا سيما الإمام الصّادق الذي امتلك أشهر مدرسة علمية بين سائر الأئمّة، نجده قد رجَّحَ تعزيز البُنى التحتية الثقافية على النشاط السياسي الحاد، ولا سيما النضال المسلَّح. ولَمْ يُبدِ استعداداً لتكرار مبادرة الإمام الحسين بحجّة عدم توافر العدد الكافي من الأصحاب. وفي فترة إمامة الإمام الصادق حين ثار عمّه زيد بن علي بن الحسين (76_122هـ) ولاقى مصيراً كمصير الإمام الحسين، كان موقف التشيّع الجعفري على خلاف التشيّع الزيدي، ولم يجعل الثورة المسلّحة شرطاً من شروط الإمامة. وما إن استقرّ الأمر للعباسيين اعتُقِل الإمام موسى الكاظم (128_183هـ) وقضى سنوات طويلة في السجن. وإن الإمام عليّ الرضا (148_203هـ) لشعبيته آنذاك قَبِل مُكرهاً بمنصب ولاية العهد في حكم المأمون، بشرط ألّا يتدخّل في الشؤون السياسية. وهكذا سائر الأئمّة، لم يمارس أيّ منهم نشاطاً سياسياً، وتعرّضوا تدريجاً إلى مزيدٍ من الضغوطات والمضايقات، حتّى صعب على أصحابهم المقرّبين أيضاً أن يتواصلوا معهم. وبالمحصّلة النهائية لا نجد في سيرةِ أيّ واحدٍ من الأئمّة طريقة الإمام الحسين في التصدّي للسلطة المعاصرة له. فإنّه يُعد استثناءً بين أئمة أهل البيت، وليس قاعدة، مهما كانت الأسباب.

ثانياً: لم يتّبع علماء الشيعة أيضاً الأنموذج الحسيني الذي يحثّ على محاربة الجائر، ويحرّم السكوت عن الظالم. وبعبارةٍ أخرى اعتماد الطريقة المعبَّر عنها بـ«التشيّع الأحمر» و«الإسلام، المدرسة المناضلة». لقد سلك علماء الشيعة منذ البداية وحتّى الآن طرقاً متفاوتة، بدءاً من الشريف المرتضى عَلَم الهُدى (355_436هـ) نقيب الطالبيين، وأمير الحاج ورئيس ديوان المظالم، ونصير الدين الطوسي (597_672هـ) وزير الحاكم المغولي هولاكو، وغيرهما من القرّبين من الحكومات المعاصرة لهم؛ ووصولاً إلى الفقهاء المساندين للحِراك الدستوري [المشروطة] في إيران من أمثال الآخوند الملا محمّد كاظم الخراساني (1255_1329هـ) والميرزا محمّد حسين النائيني (1276_1355هـ) من الذين كانت لهم ميول نحو ممارسة النضال السياسي. لم تكن أيّ من هاتَين الطريقتَين نمطاً متّبعاً لدى أغلبية الفقهاء الشيعة. فإن من يمثّل الأغلبية بين الفقهاء الشيعة هم فقهاء من أمثال الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1267_1355هـ) مؤسس الحوزة العلمية في قم، والسيد حسين الطباطبائي البروجردي (1875_1961م)، مِن الذين عُرِفوا بـ«الفقهاء الصامتين». وإن الفقيه الوحيد الذي يمكن أن نقول عنه بأنه نهض طبقاً للأنموذج الحسيني هو السيد روح الله الموسوي الخميني (1902_1989م). فهو أيضاً كان يؤكّد بأن حِراك 5 حزيران [في عام 1963] وثورة شباط 1979 هي فرعٌ من الثورة الحسينية وامتداد لها. وعلى الرغم من أن الكثير من مراجع التقليد الشيعة خاضوا غمار النضال السياسي في السنتَين 1963 و1964، ولكن بعد أن نُفِي السيد روح الله الخميني والسيد حسن الطبابطائي القمي (1912_2007م)، عاد سائر المراجع إلى النهج التقليدي لدى الشيعة. وفي نظرةٍ كليّة إلى تاريخ علماء الشيعة يمكن القول بأن الأعم الأغلب منهم لم يعتمدوا الطريقة الحسينية على الصعيد العملي، وهذا يعني بأن الحسين في هذا المستوى أيضاً (مستوى العلماء وليس الأئمة) ظلّ استثناء وليس قاعدة. فبحسب فتوى الأعمّ الأغلب من علماء الشيعة يُشترَط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم تحقق الضرر على المال والنفس. بمعنى أن الشيعي المتشرّع لا يجب عليه القيام بعملٍ ممثال لعمل الحسين، ولا داعي إلى بلوغ الشهادة لاعلاء كلمة الحق.

ثالثاً: كلّ القرارات التي اتخذها الإمام الحسين طوال حياته «عقلائية». فإذا كان يعلم بما يئول إليه الأمر لما كان يكترث بكُتب أهل الكوفة والبصرة وبدعوتهم غير المسنودة. وبعبارةٍ أخرى إن الإمام الحسين بصفته واحداً من «العلماء الأبرار» اتخذ قراراً بشرياً، ولاقى مع أسرته وأصحابه مآلات هذا القرار . وإن الاعتقاد بأنّه كان على علم بما يئول إليه الأمر، ولكنْ لَم يُسمَح له بالاستفادة من هذا العِلم (ردّ المنهج التقليدي) هو أمر لا يمكن القبول به. إذ لا يوجَد أحدٌ يُسمَح له بالعمل خلافاً للحُكم الإرشادي الوارد في القرآن: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. (البقرة/95) وإن الجواب الصحيح هو أن نقول بأن الإمام الحسين اتخذ قراره بحسابات بشريّة، ولم يتوقَّع غدر مُرسلي الكتب الهزلاء في الكوفة والبصرة. وفي قراره اللاحق رفض ذلّة البيعة مع الخليفة الجائر، وشرب من كأس الشهادة بكلّ عزّ وكرامة. وقد استلهم سائر الأئمة دروساً من تجربة الإمام الحسين، وحاولوا تجنّب المواجهة العلنية مع الخلفاء الجائرين لكي لا يواجهوا مصيراً كمصيره. إن سيرة الأئمة تستبطن تأييداً لـ«نهج العلماء الأبرار»، وليس «الإمامة فوق الإنسانية القدسية». ولهذا السبب لم يُستشهَد من الأئمة سوى الإمام علي والإمام الحسين (قتلاً بالسيف)، والإمام الحسن المجتبى والإمام موسى الكاظم (قتلاً بالسُّم). والسبعة الآخرون من الأئمّة فارقوا الحياة بالموت الطبيعي. هذا هو نصّ ما ذكره الشيخ المفيد (336_413هـ) أحد أكبر علماء الشيعة. (في كتاب المقنعة، باب الأنساب والزيارات، ص 461_485)، حيث شكك في استشهاد الإمام عليّ الرضا عن طريق دسّ السُّم، ورفض بشدّة استشهاد بقيّة الأئمة (أي الستة الباقين منهم). (تصحيح الاعتقاد، ص132.)

رابعاً: لقد بالغ التشيّع التقليدي والتشيّع الثوري كثيراً في أهمية الفاجعة الأليمة لمقتل سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه في كربلاء. لا شكّ في أن بعثة النبيّ ونزول القرآن وتعيين الإمام علي بصفته المصدر الثالث للمعرفة الإسلامية من لدن النبي هي أحداث أكبر من استشهاد الإمام الحسين. ولكن أعلام الشيعة حوّلوا فاجعة كربلاء إلى العلامة الأبرز في هوية التشيّع. وبالنظر إلى ما تحمله فاجعة كربلاء من تصدّع للعواطف والأحساسيس، فلا يوجد حادثة أخرى يمكنها أن تستوعب هذا الاهتمام، حتّى باتت ولا تزال أمراً عاطفياً ملموساً لدى جميع فئات النّاس من نساء ورجال وشباب وبراعم وأطفال. إن حجم معلومات الشيعة عن التفاصيل التاريخية لمقتل الإمام الحسين، وحتّى عن فرسه (المعروف بذي الجناح) أكثر بكثير من محكمات التعاليم القرآنية والتعاليم الأساسية في السنة النبوية، ومن المعارف الضرورية في تعاليم الإمام علي، ومن القيم الأخلاقية في تعاليم الإمام الحسن، ومن أدعية الإمام زين العابدين ومناجاته، ومن الموازين الفقهية في تعاليم الإمامَين محمّد الباقر وجعفر الصادق، ومن القضايا العقائدية في تعاليم الإمامَين موسى الكاظم وعليّ الرضا. إن الخرافات الملحقة بزوجةٍ اسمها شهربانو ابنة يزدجرد الثالث، وعمّا يُذكر عن طفلة صغيرة اسمها رقيّة، وعن زواج القاسم بن الحسن الذي لم يبلغ الحُلُم في يوم عاشوراء، وأمور كثيرة أخرى قد ترسّبت في الثقافة العامة لدى الإيرانيين. ولكن إلى جانب هذه الأمور التي لم ترد لا في أصول الدين ولا في فروعه هنالك هبوط كبير في مستوى المعلومات المتعلقة بكثيرٍ من الموازين الإسلامية والشيعية، والهبوط أشد وأكبر على صعيد العمل بالموازين الشرعية والأخلاقية. لا يمكن لطم الصدور وذرف الدموع وصرف الأموال من أجل إمام الأحرار، إلى جانب ممارسة الكذب والغيبة واختلاس المال العام، وعدم الاكتراث بحقّ النّاس، والتقاعس في انجاز المناسك الشرعية، والتهاون في العمَل المكلَّف به والغشّ فيه. فعلى الرغم من أنَّ أزيد مِن خمسة وتسعين بالمئة من الشيعة يشاركون في مراسيم العزاء الحسيني، لا نجد تناسباً ملموساً بين سلوكهم والأخلاق والحرّية الحسينية، وإن التزامهم بالمناسك والموازين الشرعية ليس أكثر من سائر المسلمين. وعليه يمكن القول بأن الشعائر والمآتم الحسينية لم ينتج عنها ترسيخٌ للفضائل الحسينية والقيم الإسلامية والشيعية في المجتمع. ما يُرجى من هذه المراسيم أن تكون لنشر وترسيخ كلّ المعارف الإسلامية والشيعية؛ وإن استذكار المقتل والتفاصيل التاريخية وتحليلها لغايات نضالية أو سياسية لا يترتّب عليه ذرّة من انتشار التديّن، وهذا ما حصل فعلاً. إن تهييج أحاسيس الهوية الدينية وعواطفها حقق رونقاً لسوق الشعائر المذهبية. وإن التحليل غير التاريخي وغير الانتقادي لواقعة كربلاء، وتطبيقها على القضايا السياسية والنضالية والثورية ما هو إلا استفادة أو استغلال لحجم هذه الواقعة، ويندرج ضمن توظيف الدين للأغراض السياسية، ولم تتحصّل منه فائدة تتعدّى الثورة والنضال. على هذه المجالس أن تتحوّل إلى أماكن لترويج الفضائل الدينية والموازين الشرعية، فالحسين ضحّى بنفسه لإحياء هذه الفضائل والقيم. وعليه فإن الالتزام بالموازين الشرعية والأخلاقية هو المعيار الأساس في اختبار مدى الاتّباع لنهج الإمام الحسين. ولنبدأ بأنفسنا.

النتيجة

فلنعد إلى الأسئلة الثلاث التي عُرضَت في بداية المقال. يُعدّ الإمام الحسين بين أئمة أهل البيت استثناء وليس قاعدة. وإن أغلبية العلماء الشيعة لم يتّبعوا على الصعيد العملي النهجَ الحسيني، ولم يوصوا في آرائهم العلمية بالنضال والاستشهاد على طريقة الإمام الحسين. وإن أفضل شاهد على هذا الرأي هي الشروط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لقد بالغ التشيّع التقليدي والتشيّع الثوري كثيراً في أهمية الفاجعة الأليمة لمقتل سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه في كربلاء. وإن مجالس العزاء الحسيني في القراءة التقليدية هي من أجل نيل الثواب ولتكوين الهوية الشيعية، وفي القراءة الثورية هي مجالس لإعداد المتدينين وتهيئتهم لإحداث ثورةٍ ضدّ الطاغوت؛ وكلتا القراءتان حققتا نجاحاً نسبياً في تطبيق غاياتها. ولكنَّ القراءة التاريخية النقدية ترى بأن هذه المجالس لم توفَّق في ازدياد المعارف الإسلامية وترسيخ الفضائل الدينية بين الشيعة، لأنّها تمحورت أوّلاً حول تفاصيل المقتل، ولم تهدف إلى تبيين المعارف الضرورية في القرآن وسنّة النبي وتعاليم أهل البيت أهل البيت. وثانياً لم يتقدّم الشيعة للأسف الشديد على سائر المسلمين أو غير المسلمين في تحقيق الفضائل التي بذل الإمام الحسين حياته من أجلها.