باليت المدى: أجنحة أُمي

Saturday 21st of September 2019 06:28:02 PM ,
العدد : 4511
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

خطرَ لي ذات ليلة بأن لي جناحين طرت بهما من هولندا الى بغداد حيث أمي التي مضى على فراقي لها في ذلك الوقت ثماني عشرة سنة،

ياله من وقت طويل يحتاج الى أجنحة فعلاً، بعيداً عن جواز السفر وبلا أوراق أو حدود، هكذا حلمتُ وتخيلتُ نفسي كائناً يطفو فوق السحاب والغيوم متوجهاً حيث أمي التي كانت تنتظر عودتي كل يوم. وحين صحوت من ذلك الخاطر فكرتُ طويلاً بهذا الموضوع وقررتُ أن أحقق ذلك من خلال الرسم الى أن أحصل على أوراق تمكنني من السفر، بعد أن تساءلتُ مع نفسي: ياله من موضوع مثير للرسم، فبدأتُ بمجموعة لوحات لأشخاص يطوفون بأجنحتهم فضاءات اللوحات وتحتهم تظهر بيوت بعيدة كأنها مدن نائية بعيدة المنال، وكانت اللوحة الأولى في المجموعة التي لم أرد لها أن تنتهي، بعنوان (شوق الى البيت) لتتناسل اللوحات بعدها وتكثر، وتصل الى أكثر من ثلاثين لوحة لهؤلاء الأشخاص الذين يتمايلون بأجنحتهم لا يلوون على شيء ولا يهتمون لقوانين الطبيعة ولا لقوانين التكوين التقليدي للعمل الفني، يطيرون ويحلقون في عالم فسيح بلا تعقيدات ولا تردد أو خوف، انهم يحققون حلمهم الذي هو حلمي أيضاً، ويذهبون بخيالهم نحو فضاء بعيد. 

على الفنان أن يرسم أحلامه وخيالاته وما يشغله ويضيء روحه، لذا لجأتُ الى هذا الطريق السرمدي الذي كنتُ أقطعه بخيالي ذاهباً صوب بغداد مع هذه الأشكال التي لا تشبه الشخصيات التي نراها في الشارع، بل هي كائنات خيالية تحمل الكثير من التساؤلات والغموض. كثرت اللوحات وتداخلت عناوينها التي تشير الى هذاالموضوع وإزدادت المعارض التي عرضت فيها أجنحتي، حتى أن أحد معارضي في شمالي هولندا كان بعنوان (أجنحة الغيمة) والذي احتوى على الكثير من هذه اللوحات مثل، ملاك شارد الذهن، الاقدام الراقصة، الملاك الحارس، الحب المجنح، بعيداً عن الأرض، وغيرها الكثير. 

في أحد أيام سنة ١٨٥٥ خرج الرسام الفرنسي غوستاف كوربيه من مرسمه وهو يصرخ بأعلى صوته متذمراً من الرسم الكلاسيكي ( فلنكف عن رسم الملائكة، أنا لم أرَ ملاكاً في حياتي، فلماذا أرسم الملائكة إذن؟ فلنخرج الى الشارع ونرسم الناس والعمال وهم يرصفون أحجار الطريق، نرسم الواقع الذي نعيشه) وفي ذلك اليوم بالتحديد وبتأثير من كلماته تأسست المدرسة الواقعية في الرسم. لكن يبدو أني هنا قد قلبتُ فكرة كوربيه من جديد وعدتُ لرسم الملائكة كنقطة إنطلاق نحو بعض الحلول الفنية، فأنا لا أرى أن هناك موضوعاً جديداً وموضوعاً قديماً، بل أن هذا ليس مهماً بحد ذاته، والأهم هي الزاوية التي ننظر خلالها الى الموضوع، والطريقة التي نراه بها، وكيف نكشف مزاياه وطاقته ونعكسها على يومنا الحاضر، ولا نعول على (ماذا نرسم) بل كيف نرسم، لذلك لجأت الى الأجنحة التي تبدو موضوعاً كلاسيكياً، ورسمتها بطريقتي محاولاً وضع يدي على نوع من الرومانسية التي تحملها بين طياتها. 

مضى الوقت وإلتقيتُ بـأمي وحدثتها عن الموضوع وكانت إستجابتها رائعة وهي تقول بسعادة (بعد أمك، المهم جيت وشبعت منك شوف) وهي تنظر لي كما ينظر الشيخ الى إبنه في لوحة ريمبرانت (عودة الإبن الضال) لتصبح بعدها لوحات الملائكة والمجنحين الذي رسمتهم جانباً من تاريخ احببته رغم بعض الدراما التي كانت تعلو سطوح تلك القماشات. 

وهكذا صرت أستعيد صورة أمي بعد رحيلها وأنا أرسم بين حين وآخر ملاكاً مجنحاً، قد يبدو منسياً هنا وشارداً هناك لكنه يمنحني بعض الأمل في أن الرسم هو المعادل الجمالي لما يحدث في الحياة وهو الذي يفتح الباب لأرى من خلاله الى أين تسير خطواتي القادمة.