خبير بيئي: تلوث المياه واستهلاكها المفرط يُهدد العراق بالظمأ

Sunday 22nd of September 2019 07:01:16 PM ,
العدد : 4512
الصفحة : محليات ,

بيتر هارلنغ (خبير بيئي) 

ترجمة : عدوية الهلالي

كيف يمكن لبلد كان مهداً للحضارة والزراعة وكان يرتوي من نهرين أن تنقصه المياه ؟ لقد عرف العراق بوفرة مياهه ،واليوم ،

باتت الوفرة الفائضة للمياه ذكرى بعيدة ، فقد أصبح التزود بالمياه في العراق عرضة للتقلبات أكثر من أي وقت مضى ، ومع ذلك ، مازالت البلاد تستهلك المياه وتلوثها كما لو لم يكن ثمة مستقبل على الأبواب ، وبات هذا التبذير يهدد وجود الشعب نفسه من حيث الأمن الغذائي والصحة العامة بل والقضايا الجيوسياسية والشؤون النفطية ..

ويبدو أن البيئة تقوم اليوم في العراق بهجوم مضاد ، فالأمطار تهطل بعنف غير مسبوق والفيضانات تجتاح المدن وتفسد المناطق الزراعية ، وتكثر العواصف الرملية، كما باتت مواسم القحط تمتد أحياناً لسنوات وتؤدي الى جفاف الأراضي الزراعية التي ترعى فيها قطعان الماشية الهزيلة ..

وفي الوقت الذي يبتلع العراق فيه مياهه ، يلجأ العراقيون الى تفسيرات واهمة عن أسباب شح الموارد فيتهمون جيرانهم بمصادرة الماء ،ويرى أحد كبار موظفي وزارة الخارجية العراقية ممن سبق له العمل في ملف المياه أن من الأفضل ألا يستورد العراق منتجات غذائية من سوريا وإيران وتركيا مشيراً الى أن هذه الفاكهة والخضراوات قد زرعت بالمياه التي انتزعت من العراق!..

ويعتمد دجلة والفرات بالفعل الى حد كبير على الإمدادات من الدول الأخرى ، لاسيما من تركيا وإيران ، اللتان تسحبان كميات كبيرة من المنبع ، وفي السبعينيات ، قامت أنقرة ، بالاستثمار بشكل مكثف في تشييد السدود ، وتم بناء ستة سدود من أصل 22 كانت قد خططت لها ، لكن الخطر بدأ يلوح في الأفق ، فعند اكتمال مسلسل السدود سينخفض منسوب مياه الفرات بنسبة 25% من المنسوب الأصلي ، كما أن أنقرة قادرة – لو أرادت – ومنذ نهاية التسعينيات على اقفال صنابير المياه وقطع المياه عن العراق لسنة كاملة ، وكان افتتاح السدود الكبرى في تركيا قد جعل من دجلة شبه جدول صغير يمكن لسكان بغداد اجتيازه مشياً على الأقدام ..

مؤخراً ، سعت إيران التي تأثرت بقحط شديد الى السيطرة على مواردها وإعادة توزيعها ، وقد حولت بالتالي مياه روافد مهمة كانت تصب في دجلة مثل سيروان والكارون ، ومايزيد الطين بلة أن إيران قد استخدمت مجرى هذين النهرين مصباً لمياهها الوسخة المستهلكة في البيوت والزراعة والصناعة فراحت ترسلها الى ماوراء الحدود بدلاً من معالجتها على أراضيها ..ويقول أحد سكان البصرة بأسف :" كل مايصلنا من إيران هو الميليشيات والمخدرات والمياه القذرة التي تنبعث منها روائح كريهة تتصاعد من سطح المياه في مصب شط العرب " ..

أما سوريا التي أنهكها النزاع في السنوات الأخيرة ، فليست في موقع يمكنها من زيادة المعاناة في العراق إلا أن إعادة الإعمار فيها سوف تتوقف بلا شك على إحياء القطاع الزراعي الذي سيحتاج الى ضخ المياه الوفيرة من الفرات .. العراق إذن محاط بالبلدان المتعطشة للمياه في منبعها ، وليس له قدرة على حماية مصالحه فيما يتعلق بالنهرين الكبيرين ، بينما تتوالى الاتفاقيات حول تقاسم المياه منذ عام 1920 ، ولكن يجري تجاهلها في أغلب الأحيان خاصة بوجود طبقة حاكمة أنانية هاجسها العمل قصير الأمد ، ومع وجود أبعاد خارجية مقلقة لقضية المياه إلا إنها في الوقت نفسه مبالغ بها ، فأصل مشكلة المياه يكمن في العراق نفسه ، والحلول المتاحة متوفرة داخل حدوده ، فمع أن حوالي 97 بالمئة من أراضيه يمكن تصنيفها من بين الأراضي القاحلة أو شبه القاحلة، إلا أن العراق يبقى غنياً بالمياه حسب المعايير الإقليمية: ففي عام 2004 كان العراق يحظى ب 2500 متر مكعب لحصة الفرد من المياه العذبة. أي ما يفوق معدلات المملكة المتحدة وألمانيا، أما الدول العربية فما من دولة بينها تحظى بأكثر من 1000 متر مكعب للفرد.

. إلا أن هذه الثروة العراقية تبدو وكأنها تتبدد بالسرعة التي تتجدد فيها. فالعراق ينتج سنوياً حوالي 22 مليار من الأمتار المكعبة من المياه العذبة، ويتبخر منها 19 مليار متر مكعب في أجواء من الحرارة القصوى. عملية التبخر هذه هي التي تجعل البلاد بحاجة ماسة للمساهمات الخارجية. وتحصل هذه العملية على وجه الخصوص في البحيرات الاصطناعية الممتدة على مساحات شاسعة والتي تستخدم كخزانات للمياه، وهو استخدام لا يتناسب مع بيئة البلاد، كما تطال الخسارة أيضاً المناطق الجنوبية الرطبة الغنية بالخضرة والأشجار، مما يهدد بدوره بفقدان كمية هائلة من الفصائل النباتية والحيوانية.

ويتغير المناخ العراقي باستمرار فترتفع الحرارة. وينخفض مستوى الأمطار. ويشعر المزارعون في سهول الشمال الغربي بالقلق أزاء عواقب انخفاض مستوى الأمطار على محاصيل الحبوب ، وتشير توقعات البنك الدولي الى ارتفاع كارثي بالحرارة من الآن وحتى عام 2050 مايفاقم من ظاهرة التبخر وينذر بأزمة حقيقية في العراق ..

وكثيراً ما يزيد سلوك الإنسان من خطورة المشكلة. ففي أشهر الصيف، يميل العراقيون الى استخدام برودة التكييف القصوى، وهذا التكييف يقذف من الحمم الحارّة الى الخارج مقدار ما يفرزه من الهواء البارد في الداخل، كما يحاول العراقيون ترطيب الأجواء بتقنيات مرتفعة التكاليف مثل " المبردة " التي تسحب الهواء عبر القش المبلل بالمياه ، وآلة رش الماء على الارصفة 

ومن سخرية الأقدار أن يفيض العراق اليوم بنوع آخر من الوفرة غير المرحب بها. فانخفاض منسوب المياه في النهرين يقابلها صعود مستوى البحر على شكل أمواج زاحفة الى عمق شط العرب. بما معناه أن ارتفاع مستوى البحار المترتب على الاحتباس الحراري قد ينعكس وابلاً على المياه فارتفاع متر واحد سيجبر المليوني نسمة من سكان البصرة الى الرحيل، أما ارتفاع ثلاثة أمتار فقد يجتاح داخل الأراضي الى مسافة 150 كيلومتر ويغرق الملايين الآخرين من السكان في مستنقع شاسع.. 

ويعني التغيير المناخي أيضاً أن الأمطار تهطل بغزارة وأزمة العواصف تكاد تتكرر سنوياً بينما يفوت العراق على نفسه فرصة تجميع وتخزين المياه، التي تُغرِق المجاري وتجعلها تفيض. وفي الوقت الذي يُعَرِّض فيه التغيّر المناخي الموارد المائية في العراق الى وضع من الهشاشة البالغة، فأن الزراعة تلتهم 80% من إجمالي الموارد المائية في البلاد فجزء كبير منها مخصص لمحاصيل موصوفة بالـ“ستراتيجية” مثل القمح والشعير، نتيجة الجهود المبذولة منذ عقود لتأمين الاكتفاء الغذائي. ومع ذلك فالعراق يبقى خاضعاً للتبعية بشكل بائس، حيث تستمر البلاد في استيراد ما يفوق إنتاجها من القمح، فتشتري سنوياً ثلاثة الى أربعة ملايين طن من القمح من الخارج. وهذا سلوك باهظ التكاليف، بالمياه وبالمال: ففي حين أن الإنتاج الزراعي لا يمثل سوى 3% من إجمالي الناتج المحلي، فإن الدولة العراقية تنفق كل سنة حوالي 5 مليارات دولار - أي ما يمثل 2% من إجمالي الناتج المحلي - في استيراد السلع الغذائية الأساسية. ويشير معدل النمو السكاني أن هذا النهم للاستيراد سوف يستمر على الأرجح فلقد تضاعف عدد السكان في العراق ليبلغ 40 مليون اليوم وهو مرشح للزيادة بشكل متسارع.

وسوف تستمر عائدات الاستثمار ، الضعيفة أساساً، في التراجع، مع ما يترتب على الممارسات الزراعية من تسميم للأراضي، بزيادة ملوحتها، وهو الأمر المرتبط باستخدام الطمي الغريني كسماد، والإفراط في السقي، والصرف غير السليم والتبخرفمعاناة المزارعين مرتبطة الى حد ما بالتقنيات التي يستخدمونها. حيث ما زالوا اليوم يلجؤون الى نفس الأساليب التي كانت تستعمل منذ آلاف السنين”.

تاريخياً كان فيضان الأنهار يساهم في غسل الأراضي من الملوحة، إلا أن الشبكة المركبة من السدود على الضفاف وعبر مجرى الأنهار ومن الخزانات المختلفة قضت على الدورات الموسمية تلك في منتصف القرن العشرين. منذ ذلك الحين خسر العراق ثلث المساحات الزراعية..

وقد تشهد ثلاثة أرباع الأراضي المرويّة المصير نفسه. حتى في الأماكن التي تبقى فيها الأراضي خصبة فإن المستوى المتدني من عائدات المحاصيل يثير القلق ، بل أن قيمة محصول القمح المالية متدنية للغاية. فكل المحاصيل الأخرى تدر أرباحاً أفضل، وفي نفس الوقت فهي تستخدم مساحة أقل من الأراضي. هذه الأمور الغريبة لا يرضى عنها الجميع. بل على العكس، ثمة عدد كبير من الخبراء العراقيين والدوليين يصرحون بوضوح بضرورة إجراء إصلاحات بسيطة وبديهية ومنها على وجه الخصوص وضع عدادات للمياه، والانتقال من الري بالفيضانات الى شبكة الأنابيب الجوفية، أو الري بالتقطير بهدف الحد من التبخر، وإحلال شبكة تصريف مناسبة ل75% من الأراضي المرويّة المهددة بالملوحة إلا أن هذه التدابير البسيطة لم تطبق حتى الآن لأسباب عديدة

ومن الأعراض المدمرة هو ما نشهده من عمليات الضمّ التدريجية للأراضي القابلة للزرع: ففي كل نواحي بغداد ثمة أفراد وشركات يقومون بتدمير البساتين والمشاتل لتشييد المساكن، ومراكز الترفيه بل وتم حرق بساتين من النخيل بكاملها على أيدي مجهولين فتركوا وراءهم غابة من الجذوع المتفحمة التي تنذر بعمليات التدمير .. كما أن استعداد الطبقة الحاكمة لتحقيق أرباح سريعة يمنع التفكير في ملف المياه على المدى الطويل ..

إن هدر المياه شبه عالمي في العراق إذ يستهلك العراقي العادي 392 لتراً للاغراض المنزلية وحدها ، أي مايقرب من ضعف المعدل الدولي البالغ 200 لتر، وفقا لمسؤول في اليونسيف في بغداد ويقوم السكان بإهدار المياه مقابل مبالغ ضريبية ضئيلة كما ساعدت هذه التناقضات في جعل شبكة مياه الشرب العراقية واحدة من أسوأ النظم في العالم ..