باليت المدى: مسرح الغابة

Saturday 28th of September 2019 06:31:48 PM ,
العدد : 4516
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

وسط غابة ديفنتر الواسعة شمالي هولندا انتصبت خشبة المسرح الصيفي الذي قَصَدتُهُ البارحة لحضور عرض انتظرته طويلاً،

هنا حيث تتشابك الأشجار وهي تحتضن المسرح المتخصص بتقديم أعمال شكسبير. لا داعي للبنايات الكبيرة ولا للمسارح المجهزة بكل شيء كي تقدم عرضاً عظيماً، فمادامت هناك إرادة ومواهب حقيقية واندفاع لا يخبو وروح تواقة للجديد، وفوق كل هذا هناك جمهور يأتي من كل مكان لمشاهدتك، ماذا تريد أكثر لتبدع وتبهر الحاضرين بفنك. كان عرضاً جمالياً متفرداً عُرِضَ في منتصف الليل وسط أشجار الغابة وتحت سمائها المفتوحة، وهذا ما أضاف للعرض قوة وأصالة وإبداع يفوق الوصف. ويعود تأسيس هذا المسرح المفتوح الى سنة ١٩٣٩ أي قبل ثمانين سنة، وهو يواظب على تقديم مسرحيات شكسبير فقط ودون توقف مهما حدث وتحت أية ظروف، وهذا ما أعطاه شهرة تسربت من بين أشجار الغابة لتعم كل هولندا وتتجاوز الحدود لدول الجوار. المسرحية التي شاهدتها البارحة كانت بعنوان (الصاع بالصاع) وهي من الأعمال الكوميدية التي كتبها شكسبير في فترة متأخرة نسبياً من حياته، وتتحدث عن الشاب كلوديو الذي إرتبط بعلاقة حب مع ماريانا التي حملت منه طفلاً، فحُكِمَ عليه بالموت جراء ذلك، وسط محاولات أخته الراهبة إيزابيلا لإنقاذ حياته، وهنا نرى صراع الحب مع الدسائس، وكيف يتم التلاعب بمصائر الناس، لينال الكاذب عقابه في النهاية. 

حضرتُ الى المكان قبل بداية العرض بثلاث ساعات لأقضي بعض الوقت في مطعم تطل واجهته الزجاجية على مدخل مكان العرض، ومع مرور الوقت لاحظتُ مجيء الناس شيئاً فشيئاً وهم يحملون حقائب وأكياساً وضعت بداخلها بعض الشراشف والبطانيات وكل ما يدفئهم وسط ليل الغابة، وأنا بدوري حملتُ الحقيبة التي وضعتُ فيها شرشفاً صغيراً مع زجاجة نبيذ للضرورة وإندسستُ وسط الجمهور نحو مدخل المسرح الصيفي. وبعد أن جلسنا في أماكننا بإنتظار العرض، فوجئنا بالممثلين وهم يتخذون مواضع معينة على المسرح ليضعوا المكياج والشعر المستعار وتهيئة ملابس العرض وبقية الأكسسوارات، يساعدهم أشخاص مختصين بوضع المكياج ، وهذه كانت أول خطوة لكسر الجدار بينهم وبيننا نحن الجمهور. إنتبهتُ وأنا أجلس الى فتاة تجلس قربي وترتدي ملابس تاريخية، ثم جلتُ ببصري لأرى الكثير من الجمهور يرتدون هذا النوع من الملابس، ليتضح لي فيما بعد أن هؤلاء ممثلين، وأدوارهم يقدمونها من وسط الجمهور. بعد ساعة من بدء العرض كان أحد الممثلين يسأل البطلة عن القرار الذي ستتخذه أزاء محنة أخيها لتجيبه (هل يمكنني أن اعطيك الإجابة بعد الاستراحة) وسط ضحك الجمهور الذي بدأ الاستراحة التي استمرت نصف ساعة وقد أخرج كل شخص بعض الطعام من حقيبته ولاحت قناني النبيذ التي إلتمع شرابها مع الضوء الخافت الذي غطى الاشجار وامتزج طعم الشراب مع الهواء الناعم الودود الذي تغلغل من خلال الشراشف وانطبع على وجوه الناس المنشغلين بإقتسام كل ذلك مع بعضهم، وهنا إلتَفَتُّ نحو الممثلة التي تجلس بجانبي بعد أن شع وجهها بضوء يشبه لمعان الذهب، وقلت لها: لو كان بيدي لأشتريتُ لك جناحين، كي تكتمل صورة الملاك على هذا المسرح، شع وجهها أكثر وهي تسمع هذه الكلمات وإبتسمت بمحبة وامتنان لنلتقط صورة معاً قبل بدء الجزء الثاني من المسرحية. 

أكملنا مشاهدة المسرحية، وعلا تصفيقنا للممثلين الذين انحنوا لتحيتنا أكثر من مرة، ليتسمروا فجأة في أماكنهم وهم ينظرون نحونا لمدة دقيقة تقريباً وسط حيرتنا، ثم تقافزوا بغتة وقاموا بالرقص مع بعض وسط التصفيق الذي ازداد مع حيويبة الرقص، لنشعر فعلاً أن كل ذلك كان عبارة عن لعبة مسرحية بارعة، إنتهت، فرقص الحاكم والمحكوم بالاعدام معاً، والغانية عانقت رجل الدين، والراهبة تمايلت مع لص المدينة السكير وهكذا واظبت هذه المجموعة الرائعة على كسر الجدار الرابع -كما يسميه بريخت- حتـى بعد انتهاء العرض. 

عدتُ في ساعة متأخرة الى البيت لأستلقي على الأريكة وأفكر بأني تركت هناك وسط ظلام الغابة مسرحاً وممثلين وسحر إبداع يطوف بين الأشجار، فغفوت أحلم بشكسبير الذي ملأ الغابة بحكاياته، وشردتُ مع ذلك الملاك الذي أضاء المكان بضوء روحه وبريق حضوره.