قناديل: المؤرخ الرسمي قناع في سيرك

Monday 7th of October 2019 07:34:08 PM ,
العدد : 4521
الصفحة : الأعمدة , لطفية الدليمي

 لطفية الدليمي

كم في التاريخ البشري المدون من تلفيق وزيف ومعلومات منحولة ومتخيلة ؟ فحادثة وقعت بالأمس سوف نسمعها بصيغ مختلفة حسب الجهة التي ترويها ،

ويتلقاها كل امريء بمايناسب آيديولوجيته وانتماءاته ومصالحه ،وقد أسهمت وسائل التواصل اليوم في كشف الوقائع المرئية والمسموعة من جهة مثلما أسهمت في نشر التلفيقات الخطيرة والصور المفبركة من جهة أخرى.

خبر مرفق بصورة جرت روايته بأشكال مختلفة بسبب اختلاف الأهواء والدوافع والجهل - فعلى سبيل المثال نشر الصديق الروائي محسن الرملي على سبيل المزاح والمرح صورة لامرأة يقبض عليها رجال الشرطة في أسبانيا وعلق عليها بمرحه المعهود بأنها سارقة قصائد جرى اعتقالها ؛ فتداولها سكان الفيس بوك على أنها واقعة حقيقية وأعلنوا أمنياتهم : أن يقبض على جميع سراق النصوص !!

وقائع يدعون أنها تاريخية دونها المدونون عبر العصور على السماع والظن والتخيل - بلاتسجيلات صوتية ولا أفلام ولا وثائق - جرى تداولها وتعديلها آلاف المرات بالإضافات الزائفة حسب الأهواء الشخصية والسياسية والعقائدية ، فكيف نصدق تاريخ البشرية المدون وهو المكتوب من وجهات نظر متناقضة وناقضة للحقيقة ؟؟.ولكن، ماهي الحقيقة ؟؟ إنها شيء متخيل لايمكن الإمساك به في مدونات التاريخ البشري . ومن هنا يتصدى علماء ومؤرخون لتدوين تاريخ نشأة الحياة البشرية وغير البشرية على الأرض باعتباره التاريخ الشامل من وجهة نظر غير منحازة وبريئة من التلفيقات، فالعلم مثبت بالاكتشافات الأحفورية والتجارب العلمية المتحققة، ولهذا نصدق العلم فهو يقدم لنا معطيات مثبتة بالوثائق ، ولأنه غير مقدس ويمكننا نقض بعض مقولاته ونظرياته التي لم تصمد إزاء الكشوفات اللاحقة.

المؤرخ الرسمي يتناقض مع نزاهة العالِم الباحث الزاهد ، فهو مثل مغني البلاط ومهرج الملك قناع وصانع ضباب يحجب الحقيقة، يعيد صياغة الوقائع وأسبابها كما تأمره الآيديولوجيا الحاكمة، ذلك أنه ذمة معروضة للإيجار أو البيع يكتب مايساند أحقية الحكام بالمكانة التي قفزوا إليها مع انعدام الكفاءة وغياب التأسيس الفكري والجهل بثقافة البلاد وموت الضمير. المؤرخ الرسمي لاعبُ خفّة بارع يحمل في جرابه زواحف وقوارض ويعرضها باعتبارها حمائم وباقات زهور، شأنه شأن محللي الفضائيات ومادحي السلاطين في سعيهم لقلب الوقائع ؛ فهو يسمي التقاتل اختلاف وجهات نظر والهزائم انتصارات عظمى والفساد خطأ في الأداء. 

يكتب كاتب السلطة عن انتصار الفضيلة والتزام الجميع بحدود الأخلاق كما يتخيلها الحاكمون، ولكنه في الحقيقة يمجد سلب الحريات وتحويل البشر إلى قطعان طائعة وينسف بأكاذيبه قوانين كفلت حرياتهم وحقوقهم. يكتب عن بسالة مسلحين تفوضهم السلطة إبادة كل مختلف وجميل ومنتج للفكر والفن وحارس للقيم الجمالية ، ويتفانى في الكتابة عن فتوحات عظيمة وأمجاد قومية ودينية صنعها فاتحون غابرون ، ويحدثنا عن دموية العدو الكافر المهزوم واغتياله لمعارضيه ،ويزيغ بصره عن مدن دمرتها جيوش الفتح ومكتبات أُحرقت ومجاعات وطواعين تفتك بالبلاد بعد اجتياح الفاتحين ، يصف فساد الحكام المهزومين وبذخهم مقابل زهد قادة يدفعون له ويعمى عن خراب الأرض المخضبة بالدم وأنين المحتضرين، ويخرس أمام آلاف جثث الرجال التي قضى أصحابها بوحشية المقاتلين ومئات النساء السبيات المساقات كقطيع بشري إلى قصور الفاتحين المنتصرين.

يعلن ذلك المؤرخ قرائن مختلقة عن قدسية الحاكم وكراماته ويسندها بحكايات منقولة عن فلان وعن فلان معززة بشعوذات وخرافات ،ويواصل القول بعظمة السلطان الجديد خالعاً عليه هالات المجد ليضعه في مكانة رفيعة بين المختارين ، ولايتردد في إختراع أشجارٍ لسلالة نبيلة تؤكد شرف المحتد لحكام أشبه بقطاع الطرق.