يقولون لا شيء يبقى على حاله. . تُحفة بصرية في قالب سردي يكتنفه الغموض

Thursday 10th of October 2019 08:36:00 AM ,
العدد : 4525
الصفحة : سينما ,

عدنان حسين أحمد

ما إن يرى المتلقي اللقطات والمَشاهِد الأولى من فيلم "يقولون لا شيء يبقى على حاله" للمخرج الياباني جو أوداغيري حتى ينشغف في هذا الفيلم الدرامي

الذي يُعدّ تُحفة بصرية بحق وهو لا يختلف في أهميته وبراعته الفنية عن "لارا" ليان أول غريستر، و"عيد القربان" ليان كوماسا، و "جلد أميركي" لنايت باركر وبقية الأفلام العربية والأجنبية التي اشتركت في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي ولكن هذا الفيلم بالتحديد يتجاوز القصة والحوار والأداء ويراهن على التصوير الذي برع فيه كريستوفر دويل وجعلنا ننشدّ إلى جمالية المكان الذي يفضي لاحقاً إلى متابعة الأحداث وما تنطوي عليه من إشارات للمحن المتلاحقة التي تنتظر شخوص القصة السينمائية بدءاً بصاحب الزورق أو "البلاّم" باللهجة العراقية تويتشي "أكيرا إيموتو"، والفتاة "ريريكا كاوشيما" و غينزو " نيغيرو موراكامي" و نيهي ووالده وبقية الشخصيات الثانوية التي آزرت الأبطال الثلاثة وأكملت تأثيث النص البصري المُذهل.

تبدو الطبيعة اليابانية الساحرة كشخصية رئيسة في هذا الفيلم حتى أن غالبية المَشاهد تُحيلنا إلى لوحات فنية كلاسيكية إذا ما أوقفنا الفيلم أو جمّدنا حركته هنا وهناك وخاصة النهر، والغابات المكتظة، والجسر الذي لم يكتمل بعد، بل أنّ حركة الزورق أو "العبّارة" في ذهابها وإيابها يمكن أن تكون عملاً فنياً مُبهراً للأبصار وسط جريان النهر وتدفقه الذي يخلب الألباب.

يُوحي عمر تويتشي بأنه أمضى سنوات طويلة في هذه المهنة الحيوية وهو ينقل الناس، وخاصة القرويين منهم، من ضفة إلى أخرى من دون أن يشعر بالملل أو الكلل، فالعبّارة هي مصدر رزقه الوحيد حتى وإن كانت الأجور لا تتعدى بضعة قطع معدنية يأخذها من زبائنه شاكراً مقتنعاً. لو تأملنا هذه الشخص جيداً لوجدناه قليل الكلام، رغم أنّ غالبية زبائنه ثرثارين، ومتطفلين، يُسمعونه بين آونة وأخرى كلامًا جارحاً يفتقر إلى اللياقة والأدب. وفي خضم هذا العمل الذي يعدّه البعض رتيباً تصطدم العبّارة بجثة فتاة يحمل جسدها كدمات زرقاء وآثار تعذيب، وقد جرفها تيّار النهر وأمواجه المتلاطمة من قرية تقع عند المنبع فيأخذها إلى منزله الخشبي المتواضع ويعالجها بالأعشاب بمساعدة غينزو لكنها، على ما يبدو، فقدت ذاكرتها وفضّلت الصمت على الكلام. لا تُخبرنا القصة السينمائية بشيء وإنما تُحيلنا إلى الشائعات والأقاويل التي تدور في قرية المنبع ومفادها أن مُجرمًا مجهولاً قد قتل عائلة بأكملها وربما تكون هذه الفتاة المُصابة قد نجت بجلدها وهربت من قبضة هذا القاتل الوحشي.

لا ينتهي غموض القصة السينمائية عند هذا الحدّ حيث تنغمر الفتاة في حياتها الجديدة مع تويتشي وغينزو وإنما يظهر صديقه الحميم "نيهي" مع جثة والده الصيّاد الطاعن في السن الذي طلب من ابنه أن يترك جثته عارية مكشوفة في الغابة كي يُسدّد ما في عُنُقه من ديون للحيوانات البريّة التي قتلها على مدى سنوات مهنته الطويلة.

وعلى الرغم من غرابة الأحداث التي تقع لتويتشي إلاّ أنّ هناك واقعاً قاسياً بالنسبة إليه يمكن تلمّسه في بناء الجسر الذي يوشك على الاكتمال. تُرى، أين سيذهب هذا الرجل بعبّارته؟ وما المهنة التي يمكن أن يمتهنها بعد هذا العمر الطويل الذي أفناه وهو ينقل الناس بين ضفتي هذا النهر الساحر الذي يتدفق كما الحياة من منبعها إلى مصبّها؟

لا تشكِّل القصة السينمائية والسيناريو الذي كتبه المخرج نفسه جو أوداغيري إلاّ الجزء العائم من جبل الجليد، أما التسعة أعشار الغاطسة منه فهي الصورة المُمنتجة أو التي لا تحتاج إلى مَنتجةٍ كثيرة لأنه ما من شيء مترهلِ أو زائد فيها طالما أنها تدور في فلك جميل وجذّاب تؤازرها المؤثرات السمعية سواء أكانت طبيعية أم اصطناعية برع فيها ميتسوغو شيراتوري. فالمتعة التي يوفرها هذا الفيلم الدرامي هي متعة بصرية قبل أن تكون متعة سردية تتسيّد فيها القصة على كل ما عداها من عناصر يعرفها السينمائيون المختصون أكثر من غيرهم.

جدير ذكره أن جو أوداغيري هو ممثل وموسيقي ومخرج ياباني، درس التمثيل في كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية واليابان، واشترك في أكثر من 40 فيلماً، وفاز بعدد من الجوائز التي تكشف عن موهبته الفنية. أنجز كمخرج عددًا من الأفلام من بينها "البحث عن أزهار الكرز" الذي عُرض في الدورة 38 لمهرجان روتردام السينمائي الدولي، وفيلم "يقولون لا شيء يبقى على حاله" هو فيلمه الروائي الطويل الثاني.

وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ عرض هذا الفيلم ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية في مهرجان الجونة يُعد كسباً لهذا المهرجان الذي يقف خلفه نخبة من المعنيين بالشأن السينمائي الذين اختاروا أفلاماً تتوفر على سوية فنية لا يمكن أن تجدها إلاّ في المهرجانات السينمائية الكبيرة مثل كان وبرلين وفينيسيا وكارلو في فاري وبقية المهرجانات التي تحذو حذوها وتحاول أن تجاريها في النوع والحداثة وجمالية الخطاب البصري.