محاولة لفهم ما جرى

Tuesday 22nd of October 2019 06:44:58 PM ,
العدد : 4531
الصفحة : آراء وأفكار ,

فوزي عبد الرحيم

رغم إنه من المبكر الاطلاع على تفاصيل الحراك الشعبي خلال الأيام القليلة الماضية,مما يمكن من فهم وتحليل موضوعي يسمح بتقديم الخلاصات والدروس

فان للكتّاب والمثقفين دوراً استثنائياً في الرؤية المبكرة والبعيدة لتبصير الشباب المنتفض بحقائق قد يكون من الصعب عليهم إدراكها ,وفي ظروف معقدة وملتبسة تكون الحاجة ماسة للاراء الهادئة القائمة على أسس علمية بعيداً عن أجندات البيع والشراء السائدة في الواقع السياسي العراقي ..منذ البدء وضع كثيرون أهدافاً مبالغاً فيها للحراك الشعبي الشبابي لم تكن أساساً ضمن أهداف المنتفضين الذين في رأيي أرادوا في المقام الأول اسماع صوتهم للسلطة والعالم ذلك الصوت الذي دأبت حركات سياسية على سرقته واحتكاره للمساومة والحصول على المكتسبات من السلطة ورغم أن البعض سيرد بأن العديد من المنتفضين الشباب قد صرحوا أمام الكاميرات برغبتهم في تغيير النظام وغير ذلك من مطالب وهو أمر يؤكد عفوية الحراك وعدم ارتباطه بقوة سياسية ومن ثم لم يكن لدى المنتفضين لا برنامجاً سياسياً ولا أولويات سياسية ورغم ان ذلك يعتبر نقصاً في أي حراك سياسي شعبي لكنه من جانب آخريؤكد نزاهة الحراك وبعده عن فكرة المؤامرة التي يروج لها أصدقاء الحكم..إن فكرة المؤامرة هي سلاح لطالما استخدمه صدام ضد العراقيين لتخوينهم من ناحية ولتبرير عجزه عن إيجاد الحلول من ناحية أخرى وأنه لأمر مؤسف أن يجد حكامنا انفسهم في ذات الموقع لاسيما ويا للسخرية هم يتهمون الشباب المنتفض بانه يتحرك بالأيادي البعثية..لقد كان واضحا أن الاغلبية الساحقة من المتظاهرين كانوا في أعمار بين 18 الى 25 وهي أعمار لم تدرك حكم البعث إلا وهي في طور الطفولة فلم يكن ممكناً لهم الانقياد للدعاوى البعثية رغم رصد مجاولات للبعثيين لتوجيه الحراك لاسيما وهم غير مستعدين لكلفه الدموية الفادحة بما لايتناسب مع أوضاعهم واهدافهم واذا كان لابد من البحث عن دور البعث وتأثيره وأماكن تواجده فهو قريب جداً من مراكز السلطة التي أهلت الآلاف من البعثيين ومنحتهم مناصب حساسة مقابل الولاء وعلى حساب الكفاءات الوطنية المعارضة الحقيقية للنظام البعثي السابق..

منذ تراجع أخبار التظاهرات ورفع منع التجول وعودة الانترنت الجزئيةلاحقاً سادت مشاعر الاحباط والفشل لدى جمهور واسع وجد في ذلك هزيمة اخرى تلحق بالشعب العراقي ..إن للهزيمة والنصر معايير تجعلها كذلك وأهمها الاهداف المطلوب تحققها من الحراك وهي كما أوضحنا سابقا كانت لايصال صوت جمهور واسع من الشباب المحروم من كل حقوق المواطنة ومنها التمتع بخيرات بلده ولتأكيد استعداده للتضحية في سبيل تحقيقها وهو ما حصل ..إن الهزيمة والنصر ستتحدد بالكيفية التي يتصرف بها شباب الحراك ومناصروهم وفي طريقة استثمار ماحدث بعد الاعتبار بالدروس الهامة لانتفاضة تشرين,إن الحزن والخيبة هي فقط لسقوط هذا العدد الكبير وغير المبرر للآلاف من شباب بلدنا بين شهيد وجريح ومعتقل وهو أمر كان يمكن تفاديه لو أن السلطة كانت تتوفر على رؤية لمشاكل البلد والحلول المستقبلية لها اذ كشف القمع الشرس وغير المتناسب مع سلمية الحراك وأهدافه عن حقيقة خطيرة وهي تعدد مراكز القرار في الدولة وعدم احتكارها للسلاح وهو ما أكده السيد عبد المهدي وكرره رئيس الحمهورية من أن أوامر باطلاق النارضد المتظاهرين لم تصدر عن الحكومة كما أن الشراسة في قمع المتظاهرين تكشف عن الهوة الكبيرة بين النظام السياسي والشعب لاسيما وإن المتظاهرين هم من البيئة التي دعمت النظام أيام كان ضعيفاً ويبحث عن الشرعية التي وفرتها له وبهذا فان شرعية النظام تصبح موضع تساؤل ,كما يبين القمع حجم المصالح الهائلة التي حصل عليها رجال النظام وعلى حساب الغالبية مايجعلهم في عداء مع هذه الاغلبية التي تريد حقوقها وكذلك فإن مستوى القمع يشير الى عزلة النظام عن جمهور كان الى وقت قريب مصدر قوته وهو ماينذر بتآكل أرضية النظام ماسيحوجها دائماً لاجراءات استثنائية وقمعية لحل اشكالاتها مع الجمهور وهو ماسيؤدي الى التراجع التدريجي المستمر عن بقايا الشكل الديمقراطي لنظام الحكم..لقد قضت الانتفاضة على مقاولي المظاهرات المتلاعبين بحقوق الجمهور المحروم الغاضب وهو ما يجب على الشباب الثائر إدراكه وعدم التفريط بهذا المكسب الهام واستغلال هدوء الأوضاع من اجل تنظيم صفوفهم وافراز قيادات ميدانية وسياسية سيكون وجودها مصيرياً في أي حراك قادم ,وهو قادم حتى إذا لم يرغب به شبابنا لأن النظام استلم الرسالة وسوف يتصرف بكل قوة من أجل انتزاع كل امكانيات تجدده سواء البشرية او السياسية كما كان للمظاهرات رسالة أخرى مهمة للعديد من الاحزاب السياسية من غير أحزاب السلطة عليها ان تعيد النظر في وضعها وخياراتها وخاصة تلك القوى التاريخية التي قدمت على مدى عقود أجيالاً من التضحيات إذ أن تشكل الحراك الشعبي وتنظيمه وانطلاقه والدم الذي دفعه بعيدا عن معرفتها ومساهمتها هو أمر خطير على هذه القوى التي يجب أن تدرسه بعمق خياراتها ثم تتخذ القرارات الحاسمة التي يجب أن تغير من أساليب نضالها وتعيد اصطفافاتها إذا كانت تريد استعادة دورها في قيادة الجماهير وليس في اللهاث خلفها.

لقد أدى سقوط بضعة متظاهرين قتلى في العام 1948 الى سقوط حكومة كنا نصفها بالعميلة في حين أن سقوط اكثر من 100 قتيل وهو رقم مرشح للارتفاع مع آلاف الجرحى وعدد غير معلوم من المعتقلين لم يؤدي لأي تغيير في الحكم وهو أمر يكشف عن بعد النظام القائم ليس فقط عن شعبه ولكن عن القيم والمبادىء الانسانية العامة التي تحكم الحاكمين بالمحكومين في كل مكان من العالم..إن دروس انتفاضة تشرين كثيرة لكنا ونحن تحت تأثير الحدث لا ندرك بعضها والمهم أخيراً أن تعمل غالبية الشعب العراقي المتضرر من السلطة الحالية على ادامة الروح التي أظهرتها الانتفاضة من أجل أن تصبح الدماء المسفوكة رصيداً لمحبي الحرية والاستقلال.