آلامُ بــوريــس بــاســـترنـــــاك

Sunday 3rd of November 2019 05:55:01 PM ,
العدد : 4539
الصفحة : عام ,

جودت هوشيار

2-2

في السابع والعشرين من تشرين الأول 1958 تقررعقد اجتماع موسع للكتّاب السوفيت في مبنى نادي السينما حضره أبرز الكتاب السوفيت المعروفين ، وذلك للنظر في قضية باسترناك .

كان كل شيء معداً على نحو دقيق : من يتحدث في الاجتماع ؟ وماذا يقول في إطار إدانة باسترناك. وقد وجهت الدعوة الى باسترناك نفسه لحضور الاجتماع ، ولكنه علم إن الغرض من عقده هو إصدارقرار بفصله من اتحاد الكتاب . وهذا يعني حرمانه من السكن في منزله الذي تعود ملكيته الى الاتحاد ، ومنعه من النشر ، وحظر كتبه ، أي قطع مورد رزقه ، حيث كان يعيش هو وعائلته على ما يستلمه من مكافآت لقاء أعماله .

في الصباح الباكر لذلك اليوم غادر باسترناك منزله الريفي ، وتوجه الى موسكو للتشاور مع ملهمته ( اولغا ايفينسكايا ) وصديق مقرب منهما هو الأديب والعالم الفيلولوجي فيجيسلاف ايفانوف ، حول اجتماع اتحاد الكتاب ، وهل ينبغي لباسترناك حضور هذا ( الاجتماع – المحاكمة ) وتعريض نفسه الى سيل من الاتهامات والاهانات والتهديدات ، أم الامتناع عن الحضور ؟ وكان ايفانوف اول من قال انه لا يجوز حضور باسترناك هذه المحاكمة الأدبية بأي حال من الأحوال . وكان هذا رأي ايفينسكايا أيضاً .وافق باسترناك على هذا الرأي وتوجه الى غرفة اخرى في الشقة ليكتب رسالة الى سكرتير اتحاد الكتّاب السوفيت كونستانتين فورونكوف . وبعد فترة وجيزة خرج باسترناك من الغرفة وبيده رسالة موجهة الى اتحاد الكتاب السوفيت ، وطلب من ايفانوف الاتصال هاتفياً بفورونكوف لأبلاغه بأن باسترناك مريض ولن يحضر الاجتماع , وإنه قد كتب رسالة الى الاتحاد سيتم ايصالها اليه في الحال .وجاء في الرسالة : " تلقيت دعوتكم وكنت عازماً على الحضور، ولكنني عرفت أنه ستكون هناك تظاهرة شنيعة لذا ارفض الحضور، و لن يجبرني أي شيء على رفض شرف أن أكون الفائز بجائزة نوبل ، لكنني مستعد أن أتبرع بمبلغ الجائزة الى مجلس السلم العالمي . إنني لا اتوقع منكم عدلاً. يمكنكم إعدامي ، أو إبعادي الى الخارج ، او اتخاذ أي إجراء آخر بحقي . ولكن من فضلكم لا تتسرعوا . لأن ذلك لن يضيف اليكم لا سعادةً ، ولا مجداً ". وقام ايفانوف بايصال الرسالة الى الاتحاد قبل بدء الاجتماع .

تحدّث في الاجتماع عدد كبير من الأسماء المشهورة في عالم الفن والأدب ، واتهموا باسترناك بأسوأ الخطايا البشرية ، وبين من اتهموا باسترناك أصدقاءه بالامس ، والذي حز في نفس الشاعر كثيرا. وقد برر هؤلاء ، في ما بعد ، موقفهم المتخاذل هذا بأن الامتناع عن انتقاد باسترناك ، كان يعني فصلهم من عضوية اتحاد الكتّاب السوفيت ،او حتى اعتقالهم بتهمة التضامن مع كاتب مغضوب عليه من قبل السلطة ، لذا لم يجرؤ أي كاتب على التصويت ضد قرار الفصل . الكاتب الوحيد الذي رفض حضور الاجتماع هو ايليا ايرنبورغ . ففي تلك الايام ، وكلما اتصل به احد ، أسرع ايرنبورغ بنفسه للرد فائلا : " ايليا غريغوريفيتش "خارج البيت ولن يعود قريبا " ثم يغلق الهاتف .كان هذا موقفاً جريئا للغاية في ذلك الوقت.

في اليوم التالي 28 تشرين الأول 1958 ظهرت " الجريدة الادبية " وعلى صدر صفحتها الاولى مانشيت ضخم : " تصرف عضو اتحاد الكتاب السوفيت بوريس باسترناك لا يتفق مع لقب الكاتب السوفيتي " وتحت المانشيت بحروف أصغر نص قرار فصل باسترناك من عضوية الاتحاد .

ثمّ عقدت اجتماعات لفروع اتحاد الكتاب في جميع انحاء البلاد ، حيث ادان الكتاب باسترناك بسبب سلوكه ( الغادر ) الذي وضعه خارج الأدب السوفيتي وخارج المجتمع السوفيتي ، رغم أن اياً منهم لم يقرأ رواية " دكتور زيفاغو"

وجرت اجتماعات الاتهام والإدانة في أماكن العمل : في المصانع والمزارع ، والإدارات الحكومية ، والمنظمات الجماهيرية ، والمعاهد والجامعات ، تم خلالها رفع رسالة باسم الحاضرين موجهة الى الجهات العليا تطالب بمعاقية الشاعر. وكان المثقفون يسخرون من هذه الحملة بترديد عبارة تقول :" أنا لم أقرأها ، ولكنني ادينها . "

و إزاء هذه الحملة الشرسة والتهديد بطرده الى خارج البلاد واسقاط الجنسية السوفيتية عنه اضطر باسترناك – وهو الذي كان يعتبر نفيه الى الخارج أسوأ من الموت - إلى رفض الجائزة ، وابرق الى الاكاديمية السويدية قائلاً : « أراني مضطراً إلى رفض الجائزة التي منحت لي بسبب المعنى الذي فهم من هذا المنح في المجتمع الذي أعيش فيه، أرجو ألا تحملوا رفضي على ملمح سيئ . "

ثمّ اسرع باسترناك الى مقابلة اولغا ايفينسكايا ، وهو يحمل في جيبه قارورة تحوي كمية من مادة ( سيانيد البوتاسيوم ) تكفي لقتل شخصين ، واقترح عليها الانتحار معاً ، وان هذا سيكون ابلغ رد على القرار المجحف لاتحاد الكتّاب ، ولكن أولغا – وهي لارا بطلة رواية دكتور زيفاغو- عارضت ذلك بشدة ، قائلة إن ذلك يعد هروباً لا يليق به . واستطاعت إقناعه بوجهة نظرها . ونجد اليوم العديد من الباحثين المتخصصين في ابداع باسترناك يثنون عليها ، لأنها انقذت شاعراً عظيماً من موت محقق . حدث كل هذا في أوج ما يسمى بفترة ذوبان الجليد ومحاربة عبادة الفرد ، إلا أن أساليب الأمن السري في تجنيد المخبرين للتجسس على المواطنين السوفيت وخاصة المثقفين منهم لم تتغير . كان قسطنطين فيدين – كما اسلفنا - كاتبا شهيرا وجارا لباسترناك في ( بريديلكينا ) ، ولكن هذا لم يمنعه من رفع تقرير سري الى جهاز الأمن السري حول نية باسترناك الانتحار ، مما سيؤدي الى إثارة ضجة في الغرب والحاق ضرر كبير بسمعة الاتحاد السوفيتي في الخارج .

ورغم فصل باسترناك من اتحاد الكتّاب السوفيت ، إلا أنه ظل عضواً في صندوق التكافل التابع للاتحاد . وعلى الفور ارسل جهاز الأمن السري طبيبة متخصصة بمعالجة حالات التسمم مع كمية من الأدوية الى منزل باسترناك ، وزعمت الطبيبة انها جاءت بناء على تكليف صندوق التكافل للاعتناء بصحة باسترناك . وقد صدّق الشاعر كلام الطبيبة ، لأنه سبق له ابلاغ قيادة الاتحاد بأنه مريض .

شغلت الطبيبة غرفة صغيرة في المنزل ، ونشأت شكوك قوية لدى أفراد عائلة باسترناك حول المهمة الحقيقية للطبيبة ، وهي منع الشاعر من الانتحار واسعافه عند الحاجة ، وكذلك مراقبة ما يدور من أحاديث داخل المنزل ، وربما كانت تحمل معها جهاز تسجيل .

وكان عدد من رجال الامن السري بملابس مدنية يحيطون بالمنزل ويراقبون كل صغيرة وكبيرة وخاصة من يتردد على الشاعر من الأدباء والأصدقاء .

تشير الوثائق المنشورة في روسيا مؤخراً الى أن باسترناك كان في خضم هذه الأحداث ضحية الصراع الداخلي في قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي . فقد كان الحرس القديم في الحزب يحاول حرف خروتشوف بعيداً عن النهج الليبرالي . وبايعاز من منظر الحزب ميخائيل سوسلوف - عضو المكتب السياسي - أعد القسم الايديولوجي تقريرا من 35 صفحة تتضمن اقتباسات معادية للثورة من رواية " دكتور زيفاغو " تم اختيارها بمهارة ، وقد تم تقديم هذا التقرير الى أعضاء المكتب السياسي للحزب .كما نجحوا في تنظيم حملة اعلامية صاخبة تحت مسمى " السخط الشعبي " على الرواية ومؤلفها ، مع أن أحدا سواء داخل الحزب أو خارجه لم يقرأ الرواية . وعلى هذا النحو تم جعل باسترناك وروايته لعبة سياسية داخل البلاد وخارجها . كان الغرب أكثر ذكاءً من النظام السوفيتي ، لأنه بدا أكثر انسانية كمدافع عن الشاعر المضطهد . أما النظام الذي حظر الرواية فقد كان اشبه بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى . ولكن البيروقراطية الحزبية لم تهتم بما تبدو عليه البلاد في نظر الرأي العام العالمي ، فقد كانت بأمس الحاجة الى البقاء في السلطة .وكان هذا ممكناً مع الاختلاق المستمر لأعداء السلطة السوفيتية .

بينما كان باسترناك هدفاً لحملة شرسة وواسعه تستهدف النيل منه وتشويه سمعته تمهيداً لأسقاط الجنسية السوفيتية عنه ونفيه الى خارج البلاد ، كان أبرز الأدباء في العالم يشيدون به وبمنجزه الابداعي وشجاعته ، بينهم عدد كبير من الحاصلين على جائزة نوبل في الأدب ( برتراند راسل ، فرانسوا مورياك ، ألبير كامو ، اندريه موروا ، جون شتاينبك ، بيرل باك ، بابلو نيرودا ، توماس اليوت ) ومئات الكتّاب والشعراء والفلاسفة المعروفين الآخرين ، منهم (سومرست موم ، غراهام جرين ، ألدوس هكسلي ، جارلز سنو ، هوارد فاست)

وقد انضم لحملة الدفاع عن باسترناك رئيس الوزراء الهندي ، جواهر لال نهرو ، حيث اتصل هاتفيا بالزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف طالباً منه ايقاف الحملة على باسترناك وعدم اسقاط الجنسية السوفيتية عنه ، كما كلّف السفير الهندي في موسكو بالاتصال بالسلطات السوفيتية وابلاغها ، إن الحملة على باسترناك تسيء الى سمعة الاتحاد السوفيتي . وكان لموقف الزعيم الهندي – الذي كان يحظى بإحترام كبير لدى خروتشوف - الأثر الحاسم في تخلي النظام السوفيتي عن فكرة طرد باسترناك الى خارج البلاد .

عودة "دكتور زيفاغو " إلى القارئ الروسي

بعد ثلاثين عاماً من الحظر ، نشرت رواية " دكتور زيفاغو" عام 1988 في أهم مجلة أدبية روسية وهي مجلة " نوفي مير – العالم الجديد " ، مما سمح للجنة نوبل بأن تعتبر رفض باسترناك للجائزة قسرياً وباطلاً . وفي صيف ذلك العام ارسلت اكاديمية العلوم السويدية دبلوم جائزة بوريس باسترناك الى موسكو عن طريق الشاعر اندريه فوزنيسينسكي - الذي كان مدعواً الى السويد لالقاء قصائده أمام عشاق الأدب - كما تم تسليم الميدالية الى الابن الأكبر لباسترناك ، يفغيني باسترناك ، في احتفال مهيب جرى في ستوكهولم عام 1989

واليوم يحتل باسترناك مكانة رفيعة في الأدب الروسي ، حيث تصدر طبعات جديدة من مؤلفاته الكاملة ، وتقام له تماثيل ، وتنشأ متاحف في الأماكن التي عاش فيها ، وتنشر عشرات الكتب عن سيرته الحياتية والأبداعية ، وعن ذكريات المقربين منه ، وثمة عشرات الباحثين المتخصصين في أدب باسترناك في الجامعات الروسية . لقدعاد الشاعر العظيم الى القارئ الروسي مكللاً بالمجد الأدبي والأخلاقي ، ومثالاً للصمود أمام عواصف الزمن الرديء .