قضية للمناقشة: الصوت الغائب

Tuesday 5th of November 2019 06:31:22 PM ,
العدد : 4541
الصفحة : آراء وأفكار ,

فريدة النقاش

تشهد البلدان العربية ـ بعد ربيعها ـ ما أسميه “بالصحوة المضادة “لصحوة الإسلام السياسي” التي كانت قد بدأت بعد هزيمة 1967،

وانعقدت في الأيام الأخيرة مؤتمرات ومنتديات وحلقات نقاش تعالج ظاهرة الإرهاب والتطرّف الديني، من كل زواياها بحثاً عن طرق وطرائق للخروج من المأزق الراهن.

وإذا كانت غالبية الفعاليات تتم في إطار المجتمع المدني وخارج نطاق السلطات السياسية في الوطن العربي، فإن الأمر في السعودية يختلف لأن ما أسميه “بالصحوة المضادة” تنطلق من قمة السلطة وهو ما يمنحها القوة التنفيذية والقدرة على العمل بحرية مع القوى الاجتماعية المختلفة، وكانت هذه القوى تتطلع بشوق عبر عقود طويلة من هيمنة الفكر الوهابي، ونفوذ رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ تتطلع إلى التغيير للأفضل الذي نضجت شروطه في الواقع، وكبحه تسلط الرجعيين وأصحاب المصالح الرافعين للرايات الدينية، والمتمترسين خلف الوضع الخاص لشبه الجزيرة العربية، التي شهدت مولد الرسول والقرآن الكريم، وكانت منطلقاً للفتوحات الإسلامية، وسجلت وثيقة مؤتمر الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم ” أن الإدارة الحضارية للخلاف طريق يتبع لتجديد الخطاب الديني وللرقي الحضاري كما أوصى المشاركون في المؤتمر بتجديد النظر إلى الخلاف الفقهي ليكون بداية لحل المشكلات المعاصرة بدلاً من أن يكون جزءاً منها .

وتقف كل الجهود الشريفة والمبذولة على المستويات الفكرية والسياسية، سواء كانت محصورة في النطاق الضيق لنقاشات المفكرين والمثقفين، أو تجاوز هذا الإطار قليلاً إلى جمهور أوسع ـ تقف جميعاً في منتصف الطريق إذ تتشبث كلها بالنصوص الدينية مرجعية شبه وحيدة لها، وإنْ تعاملت مع مرجعيات أخرى فباعتبارها ثانوية بل أحياناً غير ضرورية، وهنا تتجلى أزمة التجديد المنشود والصحوة المضادة، وهنا أيضاً تنفجر التناقضات حتى في داخلها .

وقبل أكثر من قرن من الزمان قال “عبدالرحمن الكواكبي” الذي كرس جهده لمحاربة الاستبداد: “دعونا ندير حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط .

في هذا المنتصف من الطريق إلى التغيير يدخل النص الديني في صراع مع نفسه، وتسحبه المرجعية الواحدة في ذاته .. وتلجأ القوى التقدمية الطامحة للتغيير للأفضل والطالعة في قلب الربيع العربي بوروده وأشواكه إلى القول “بصحيح الدين” وصحيح الدين هو مرجعيتها، ويجادل الرجعيون والمحافظون بصحيح الدين الآخر، الذي هو مرجعيتهم، وهكذا يقف الطرفان على الصعيدين الفكري والسياسي وجهاً لوجه باسم صحيح الدين، ويعتمد كلاهما بنفس القوة على النصوص .

وتسجل القوى الرجعية والمحافظة في ميدان الفكر انتصارات متلاحقة رغم أن الشعوب لفظت الإسلام السياسي في أكثر من بلد، وتعود انتصاراتهم لا فحسب إلى قوة وتماسك “النص” الذي يستندون إليه، وإنما أيضاً إلى ضعف الإقدام والجرأة لدى قوى التقدم والاستنارة، وإذ تصر هذه القوى على أن تخوض معركتها من أجل المستقبل على هذه الرقعة الضيقة التي يكوّنها النص الديني، عاجزة عن انتزاع مشروعية للتفكير والنظر من خارج هذا النص، حيث العالم الشاسع الذي يموج بالصراعات والأفكار والرؤى، وهو ينتج في كل ساعة جديداً في وثائق ومؤتمرات ومجادلات عاصفة تتفتح زهورها في ظل مناخ الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وفي ظل استلهام الدين وقيمه العليا .

ثمة إذن صوت غائب في خضم الصراع الذي تخوضه قوى التقدم والاستنارة ألا وهو صوت التفكير من خارج النص الديني، رغم ما اكتسبته طريقة التفكير هذه من مشروعية كونية أسست العلمانية بعد صراع طويل دون أن تغلق الكنائس والجوامع والمعابد أبوابها، ودون أن يقف أحد في وجه عبادة الله الواحد.

ولن تتكون مشروعية هذا الصوت بقرار حكومي شجاع من هنا أو هناك مثلما سبق أن فعل “الحبيب بورقيبة” في تونس .

ولكن هذه المشروعية سوف تتخلق عبر مسار طويل وصيرورة معقدة بعد أن يتولى مثقفون ومفكرون وساسة يتحلون بالشجاعة الفكرية ولا يخشون في الحق لومة لائم طرح القضية بصورة عقلانية وهادئة ومثابرة بعيداً عن الغوغائية الشائعة والتفاهة المتفشية، ويجذبون إليهم في هذا السياق قطاعات متزايدة من المواطنين لتكون المشروعية في هذه الحالة مجتمعية وشعبية، لتنتقل أخيراً إلى الحداثة مستلهمين ما في تراث الثقافة العربية الإسلامية من بهاء وقوة .

غني عن البيان أنه لن يكون بوسع هؤلاء المفكرين والمثقفين والساسة طرح مشروعهم هذا واستدعاء الصوت الغائب بقوة في مناخ معاد للحريات سممه كل من الاستبداد والفساد الكفيلين بإفساد كل خطوة للأمام .

ستكون إذن معركة مركبة إن طغى فيها الجانب الثقافي، فلن تغيب عنها مكونات حقوق الإنسان والحريات العامة، والتي تشدنا جميعاً إلى أهداف ثورة 25 يناير التي تجري الآن عملية خبيثة لتشويهها وطمس معالمها والتعتيم على نبلها ودروسها.

وقد علمتنا التجربة الحية أنه رغم قوة وفاعلية وجرأة الخطوات الفوقية التي اتخذها “بورقيبة” في تونس فيما يتعلق بقوانين الأسرة “المدونة” والتي تعتبرها النساء العربيات والمسلمات ـ حتى الآن هادياً ومرشداً على طريق تحررهن، رغم كل هذا فإن المناخ المقيد للحريات، والتفاوت الاجتماعي الفادح، أتاح لقوى رجعية رافضة للحداثة وحرية المرأة أن تتصدر الساحة السياسية في “تونس” وتعمل من أجل استعادة الهيمنة الذكورية والأبوية باسم الدين إلا على النساء فقط، وإنما على المجتمع التونسي بأسره .

إطلاق هذا الصوت الغائب إذن سيكون استكمالاً عادلاً لكل ما هو مشرق في الربيع العربي .