أرواح صغيرة رحلة من جحيم الحرب السورية إلى جنّة المخيمات الأردنية

Saturday 9th of November 2019 05:54:18 PM ,
العدد : 4542
الصفحة : سينما ,

عدنان حسين أحمد

ينتمي فيلم "أرواح صغيرة" للمخرجة الأردنية من أصول فلسطينية دينا ناصر إلى "سينما المؤلف" لأنها اشتركت في التصوير، وكتبت السيناريو،

وأخرجت الفيلم على وفق رؤيتها الفنية في تجسيد الثيمة الرئيسة التي رصدتها منذ البدء، وتوسعت في تفاصيلها السردية الصغيرة من دون أن تهمل أي شيء يمكن أن يترك فراغًا يُربك الجانب البصري في هذا الفيلم الوثائقي الطويل الذي يركِّز على الإنسان السوري الذي يعيش حالة مروّعة من الشتات الثاني الذي سبق أن عاشه الإنسان الفلسطيني بعد نكبة 1948 وربما يكون والد "دينا" هو خير نموذج للشتات الأول الذي نعنيه.

يلعب السيناريو دوراً مهماً في بناء الفيلم، وشدّ أطرافه المتشظية التي تتوزع بين الزمان والمكان والحدث والشخصيات، خصوصاً إذا كانت الأخيرة كثيرة العدد كما هو الحال في هذه الأسرة السورية الكبيرة التي تتألف من مروة، وآية، ومحمود إضافة إلى الأم التي تتحمل مسؤولية الأسرة برمتها، وهناك أيضاً الأخ الأكبر سليمان الذي اشترك في المظاهرات السلمية في مدينة "درعا" وأصبح مُعارضاً للنظام، ولا ننسى الأخ الخامس محمد الذي ينهمك في بعض الأعمال الحرة التي تدرّ عليه دخلاً متواضعاً.

ينطوي السيناريو على قصص متفرقة انتظمت في خيط واحد رغم أن شخصيتَي سليمان ومحمد كانتا بعيدتين عن صلب الأحداث التي تدور في مخيّم الزعتري في الأردن بعد أن قرّرت العائلة مغادرة "درعا" والنزوح إليه هرباً من قمع السلطات الأمنية التي دهمت المدينة بحجة مكافحة الإرهاب، ووضع حدٍ للعصابات المسلحة الخارجة عن القانون.

ولو تأملنا هذا الفيلم الوثائقي جيداً لوجدنا أن ثيمته الرئيسة تتركز على الشخصيات الثلاث الأولى أو "الأرواح الصغيرة" المتمثلة بمروة وآية ومحمود، ولو شئنا الدقة لقلنا إن "مروة" تمثل روح الفيلم وعصبه النابض، فهي من نمط الشخصيات المهيمنة التي استبدت بالفيلم وأخذت فيه حصة الأسد. فعندما بدأ تصوير الفيلم كانت هي في سن الحادية عشرة ثم أخذت تتفتّح أمام عدسة الكاميرا شيئاً فشيئاً حتى بلغت سن النضج وأحبّت شاباً يُدعى "عبد" الذي كانت تتواصل معه سرًا بواسطة هاتفها النقّال لكن هذه القصة العاطفية لم تُثمر عن شيء خاصة وأنّ الأسرة سوف تترك المخيم وتنتقل إلى شقة في عمّان غير أنّ ضنك العيش، وقلّة فرص العمل سوف تدفعهم للعودة إلى المخيم الذي طرأت عليه تغييرات كثيرة وما عاد مجرد خيم متراصة بعد أن دخلت عليه الكرفانات والأبنية العشوائية الأخرى، فهو بالنتيجة مخيّم نازحين وليس أمامهم سوى طريقين لا ثالث لهما، فإما الهجرة إلى الخارج أو العودة إلى الديار التي غادروها مُجبَرين لكن هذه العودة تبدو مستحيلة حتى من وجهة نظر "مروة" التي كانت ترى الحياة في مخيّم الزعتري "جنّة" أرضية بينما كانت في درعا نوعًا من الجحيم الذي لا تطيقه هذه الأرواح الصغيرة.

كانت المخرجة دينا ناصر تتابع التصوير على مدى أربع سنوات بلغت فيها "مروة" ذروة نضجها لكن قرار الترحيل كان صادماً لنا كمشاهدين خاصة بعد أن نما إلى سمعنا أن الجهات الأمنية تستجوب "محمداً" في محاولة لاكتشاف طبيعة العلاقة مع شقيقه سليمان الذي "انشقّ" عن النظام ووقف في الضفة المقابلة له.

تبدو هذه النهاية مفتوحة على احتمالات عدة تتيح للمتلقي أن يتخيل مصير هذه العائلة التي نزحت عن درعا ثم عادت إليها مضطرة حالها حال الآلاف من العوائل السورية المشرّدة. لم تكفّ المخرجة دينا ناصر عن متابعتها لهذه الأسرة السورية التي تتقاذفها الأقدار فقد أمّنت الاتصال بهم وعرفت أنهم يعيشون بسلام حتى الوقت الحاضر، وأن مروة قد تزوّجت من شخص آخر غير "عبد" الذي أحبته في أثناء وجودها بالمخيم. تُرى، هل تعاود الجهات الأمنية التحقيق مع "محمد"، وتخلق له ذرائع جديدة لم يألفها من قبل، أم أنّ السلطة ستغضّ النظر حتى تلتقط أنفاسها، ويقوى عودها لتعاود قمعها الوحشي من جديد؟

يسقط الفيلم في "السنتمنتالية" أو الميوعة العاطفية المفرطة حين تلتقي العائلة عبر شبكة الإنترنت بسليمان الذي رُزق بطفل رضيع كانوا يرونه عبر شاشة اللابتوب وهو حدث مفرح من دون شك لا يستدعي كل هذا البكاء وذرف الدموع على الرغم من بعد الابن النسبي عن العائلة.

الملحوظة الأخرى التي ينبغي أن نسوقها في هذا المجال أيضاً هي وفرة الطعام الذي كان يُقدّم للنازحين لدرجة تثير الانتباه كماً ونوعاً وهذا ما يفسّر لنا عودة هذه العائلة من عمّان إلى المخيّم ثانية لأن المواد الغذائية أرخص بكثير مما هي عليه في العاصمة.

ترصد عدسة الكاميرا الإنسان في هذا الزمان والمكان المُحددين لتُصوّر محنة المواطن السوري النازح الذي وجد نفسه خارج بيئته السورية المُحببة إلى عقله وقلبه وروحه، وها هم جميعًا يعانون من قسوة الأمطار والفيضانات التي أخذت منهم مأخذًا كبيرًا حتى ليشعر المُشاهد بأن الجنّة التي تخيلتها مروة قد أضحت جحيمًا حقيقياً حينما تهرأت خيمهم، وتنقّعت أفرشتهم الإسفنجية التي ينامون عليها ومع ذلك ظلوا يتشبثون بأهداب الأمل علّهم ينعموا بالسكينة والهدوء في مدينتهم التي تحولت إلى أكداس من الحجارة المهشّمة.

جدير ذكره أن المخرجة دينا ناصر قد أنجزت عدداً من الأفلام نذكر منها "شامية"، "دقيقة واحدة" و "غسيل البحر" وحازت على عدد من الجوائز من بينها جائزة الجمهور في مهرجان "ميد فيلم" السينمائي، وجائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان السينما الأوروبية الأردنية.