الدستور العراقي .. تشويهه وتجميده وانتهاكِه وقتلُ الدولَة

Monday 2nd of December 2019 07:29:46 PM ,
العدد : 4560
الصفحة : آراء وأفكار ,

د.لؤي خزعل جبر

أولاً : الوطنيَّة مقابِل الفئويَّة : الدستورُ هو الوثيقة التأسيسيَّة الرئيسَة للدولَة، التي تُعبر عن الوَطَن بأكمَلِهِ، فلابُد أن يُكتَب برؤيَة وطنيَّة شموليَّة عميقة هادِئَة،

لكن الدستور العراقي كُتبَ في لحظة متأزمَة، تولَّت شخصياتٌ متحزبةٌ مأزومَةٌ كتابته، فكان ساحَة للصراعات الفئويَّة، والمطلع عليه يلاحظ ذلك بوضوح، مِن ديباجتهِ حتى مادتهِ الأخيرة، فكل طرفٍ يحاوِلُ أن يزجَّ فيهِ ما يفيدُه، فأُدرِجَت فيهِ مسائِل لا تليقُ بدستور دولَة، وقد جرى التصويتِ عليهِ دون وعي كامِلٍ بهِ مِن الشعب، بل ودون الاطلاع عليهِ في الغالِب، كما إنَّ هُناك إشاراتٍ خطيرة لكونِ ما تم التصويت عليه ليس هو الحالي، وإنما أُضيفت فقرات لم تكن في النسخة المعروضَة للناسِ، وحُذِفت فقرات مما كان في تلك النسخة، ولو صحَّ ذلك فإنه يسقط شرعيَّته بالكامِل، وهذا يستدعي تحقيقاً دقيقاً وصارِماً للتثبت منه .

ثانياً : التقنينيَّة مقابل التطبيقيَّة : لا نقصد بالنقطة السابقة إن الدستور العراقي كله سيئ، بل هُناك فيهِ نقاط مُشرِقة ومتقدمة كثيرة، لكنَّ : (1) المفردات المأزومَة المذكورة شكَّلت خنجراً في خاصِرَتِهِ، ونقاطاً سوداء شوَّهَت بياضَ ثوبِهِ، و(2) انتهاكِهِ في التطبيق، فلا يكفي تشريع القانون، بل يجب تطبيقه، وإلا فقد معناه وقيمته، وهوَ ما حَدَث، إذ تعرَّض جوهره الإيجابي إلى انتهاكاتٍ خطيرة، مِن السلطات الثلاث : التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة، تلك السلطات التي تنادي بالدستورية عندما يطالِب الشعب بحقوقِهِ، ولكنها لا تلتزمُ بالدستوريَّة عندما تتصرَّف بما يهدِمه ! ولو أردنا توثيق الانتهاكات هذهِ لما كفى مجلَّدٌ ضخمٌ لذلك، فهذهِ السلطات إذن ليست دستوريَّة، بمعنى أنها هي أوَّل من انتهك ولم يلتزِم بالدستور !

نكتفي بإشارات مقتضبة ..

قتل النظام البرلماني : جوهر النِظامُ البرلماني يتألَّف من مجلسين : مجلس النواب ومجلس المُشرعين، وفي الدستور الحالي ذُكر ذلك، وسمي مجلس المشرعين بمجلس الاتحاد (المادة 65 : يتم إنشـــاء مجلــسٍ تشـــريعـــي يُدعى بـمجلس الاتحاد، يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب)، ولكن أجَّل تشكيل هذا المجلِس (المادة 137 : يؤجل العمل بأحكام المواد الخاصة بمجلس الاتحاد أينما وردت في هذا الدستور، إلى حين صدور قرارٍ من مجلس النواب، بأغلبية الثلثين، بعد دورته الانتخابية الأولى التي يعقدها بعد نفاذ هذا الدستور)، وبعد دورته الانتخابيَّة الأولى انتهك الدستور ولم يفعل ذلك، لم يصدر مجلس النواب قراره وقانونه الخاص بمجلس الاتحاد، فبقي هذا المجلِس غائِباً، وسبب ذلك خطورته، فهو المسؤول عن التشريعات، وهو عقلُ البلد، والسلطة التشريعيَّة العُليا، إلا إنَّ مجلس النواب أراد أن يتلاعَب بالتشريعات، التي هي من اختصاص مجلس الاتحاد، وليس من اختصاصاتِه، لتبقى القوانين بيد قادة الأحزابِ والكُتل، ويُلاحَظ مصداقاً لما قلناه في النقطة السابقة من حذفٍ وتلاعُبٍ بنسخة الدستور إن المادة (137) قالت : (يؤجل العمل بأحكام المواد الخاصة بمجلس الاتحاد أينما وردت في هذا الدستور)، إذن هُناك (مواد) خاصة بمجلس الاتحاد، في حين لا نجد في النسخة الحاليَّة إلا (مادة واحدة) أجمالية فقط (56) . هذا قَتَل قلب النظام البرلماني، كما أُجهز على ما تبقى منهُ تزييفُ مجلس النواب، وقتلُ مادته الرئيسة (المادة 49 : يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، يتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر)، إذ تمَّ التلاعُب بتفسير نسبة (1/100,000)، فهي تعني أنَّ كل (100,000) يختارون نائِباً واحداً، يمثلهم بالخصوص، ويرتبط بهم، لا كما تمَّ مِن أخذ العدد الكلي للمحافظات، وتحديد المقاعِد بحسب تلك النسبة، فيُنتَخَبُ مجموعة، يمثلون كل المحافظة، ولا يرتبطون بناخبيهم، ويقيمونَ في بغداد، يمارِسون عملهم هُناك، بينما يُفتَرَض أن يمارسون عملهم في محافظاتهم، ويذهبون إلى بغداد لجلساتٍ محدودة !! ، هذان الخرقان الدستوريان قتلا النظام البرلماني بالكامِل، ناهيك عن المحاصصة، التي فرَّغت النواب من مضمونِهم، وجعلتهم أدوات باهتة بيد زعماء القوى السياسيَّة، وانخراطِهم في الفساد الإداري والمالي الهائِل !!!!!

قتلُ السلطتين التنفيذيَّة والتشريعيَّة : تضمَّن الدستور العراقي مفردات ممتازة فيما يخص الحريات والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واستقلاليَّة القضاء العراقي، لكنَّ تسييس القضاء، وتابعيَّته للقوى السياسيَّة، والتشوهات المحاصصية المرافقة لتشكيل السلطة التنفيذية، انتهكَت تلك المفردات الدستورية، وبالتالي قَتَلَت السلطتين التنفيذية والتشريعية، إذ لم ينل الفرد العراقي – مثلاً – الحق في الحياة والأمن والحرية، والعمل بما يضمن له حياةً كريمةً، بل جعلته يتنفس الموت والخوف والبطالة في حياتِه اليوميَّة، ولم تكفل الدولة إصلاح الاقتصاد العراقي وفق أسس اقتصاديةٍ حديثة، وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته، بل دمرت الاقتصاد، وهشَّمت الصناعة والتجارة والزراعة، وجعلت البلد مرتعاً للسلع المستوردة الرثَّة، ونهبَت موارده ومصادره وأمواله الطائِلة، كما لم تكفل حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى الشباب، وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم، ولم تكفل الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، ولم تعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، ولم توفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم، بل ألقت بهم في أتون الصراعات الدامية والاهمال والفقر، ولم توفر لكل فرد حق العيش في ظروفٍ بيئيةٍ سليمة، بل جعلت من البيئة العراقيَّة أسوأ البيئات، ومن بغداد العظيمة أسوأ مدينة للعيش في العالَم، ولم تشجع البحث العلمي للأغراض السلمية بما يخدم الإنسانية، بل أهمَلته وجمَّدته وقتلته، ولم ترعى التفوق والإبداع والابتكار والنشاطات والمؤسسات الثقافية بما يتناسب مع تاريخ العراق الحضاري والثقافي، ولم تحرص على اعتماد توجهاتٍ ثقافيةٍ عراقيةٍ أصيلة، ولَم تَصُن حرية الإنسان وكرامته، ولا حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، بل قمعت التظاهرات بقسوة، وخوَّنت وشوَّهت المتظاهرين، وأسقَطت مئات الشهداء وآلاف الجرحى بدمٍ بارِد !!!!!

فالمطلوب هو ...

إعادة كتابتهِ وصياغتِهِ برؤية وطنيَّة شاملة على يد شخصيَّات عميقة متخصصة، تُزيل التشوهات المدسوسَةِ فيهِ، وتكرِّسُ إيجابيَّاتِه، وترفِدهُ بفلسفة إنسانيَّة راسخة، ليكونَ دستوراً يليقُ ببلدٍ هو من علَّم الكون الكتابة، وكتابة القانون، وتأسيس النِظام !!

ضمانُ تطبيقهِ بدقَّة ونزاهَة، مِن خلالِ استبدالِ كل الشخصيات المحاصصيَّة التي ساهمت بانتهاكِه بشخصيَّات مهنيَّة وطنيَّة نزيهة، لا تهدِف إلى هدر الدولة والمجتمع، ونهبِ الأموالِ وحيازة المناصِب والمكاسِب، بل تهدُف إلى بناء وطن وإنسان كريم وسليم !!