التظاهرات العراقية وأسئلة الفعل الثقافي

Tuesday 3rd of December 2019 07:25:37 PM ,
العدد : 4561
الصفحة : آراء وأفكار ,

علي حسن الفواز

التظاهرات العراقية خرجت عن كونها ظاهرة للاحتجاج، وللمجاهرة بالغضب الشعبي، لتكون فعلاً اجتماعياً يُعبّر عن وجود قوى جديدة،

على مستوى ديموغرافيا الاجتماع الثقافي والسياسي، أو على مستوى الأفكار والقيم والحاجات، وهي قضايا إشكالية لامست ماهو متغيّر في الواقع العراقي، وفي سيرورات التحوّل الذي عاشه المجتمع العراقي في مرحلة مابعد الاحتلال الاميركي، مثلما انخرطت فيه مؤسسة الدولة، بكلّ عقدها الطائفية والسياسية والاقتصادية، إذ لم تستطع هذه الدولة/ الجمهورية الخامسة من أن تنتج مجتمعاً سياسياً فاعلاً وحقيقياً، وظلت مؤسساتها" الديمقراطية" شائهة ومُخترَقة، فضلاً عن فقدان خطابها الأهلية الثقافية، والممارسة الناجحة على مستوى الإدارة والتخطيط والإشباع، وهو ما أسهم في إرباك وتشويه عملية التحوّل من النظام المركزي الى النظام التعددي، فبات التعدد متشظياً، وقوى الاجتماع تبحث لها عن مراكز ثاوية للحكم والسيطرة، وهو ما كان سبباً في إيجاد تعقيدات بنيوية في مشروع الدولة والمؤسسة والخطاب، تصاعدت معها النزعة الشعبوية، فضلاً عن التحديات الموروثة والغائرة من المركز القديم في صورته الأصولية، أو في نزعته العنفية.

التظاهرات التي فرضت وجودها على الشارع العراقي تحوّلت الى سيرورة حادة لخطاب القوى الجديدة، قوى الشباب والمهمشين والعاطلين عن اجتماع الدولة ومراكزها وأحزابها، وهو مايعني خلخلة المعادلات السياسية والثقافية التي تحكم بنيات هذه الدولة ومؤسساتها، وبروز نزعة ثقافوية أكثر تمثيلاً لطبيعة الخطاب الاحتجاجي والتظاهري لتلك القوى، عبر خطاب الرفض والجرأة في اطلاق الشعارات، وفي المطالبة بالعلمنة، والإشهار بكراهية أسطرة الجماعة والخطاب الديني والجماعوي، وهي معطيات يمكن للجهد الاكاديمي، لاسيما الباحثون في علم الاجتماع والانثربولوجيا، وحتى في الفكر السياسي قراءتها بوصفها تغيّرات عميقة في الاجتماع العراقي، وفي التداول المفاهيمي للقضايا التي تمسّ موضوعات الهوية والأمة والجماعة.

مايحدث في الواقع..مايحدث في الوعي

مايحدث في العراق السياسي يفترض حدوثاً فاعلاً وعميقاً في العراق الثقافي، ليس لتوصيف الفعل الاحتجاجي والتظاهري، بل للكشف عن خطورة هذا الافتراض، بوصفه استقراءً للتحولات والمعطيات التي تحدث، في سياق تعرية دوائر الخوف، وفي تعريف الشجاعة الثقافية، ثقافة الشعار والاحتجاج والمطالبة بالحقوق، وإثارة الاسئلة التي تخصّ موضوعات إشكالية كـ" الدولة المدنية" و" الديمقراطية" النظام السياسي" "الهوية" و"الأمة العراقية" وغيرها، وهي لا شك تحمل معها مرجعيات قد تعين الباحث في علم الاجتماع، والأنسنة على توصيف" جيل التظاهر" و"جيل المجتمع الجديد" إذ سيكون هذا التوصيف دالاً على جملة من التحولات الكبرى، التي تُعني بالمفاهيم والأفكار، مثلما تُعنى بالأطر والسياقات الحاكمة..

جيل التظاهر ليس هو جيل الهامش كما يصفه البعض، بقدر ماهو جيل التحوّل، جيل التغيير، وجيل البحث عن الذات، حيث أسهم النظام السياسي ومنذ ستة عشر عاما بتغييب الذات لصالح الجماعة، وهي عملية استلابية اسهمت الى حدّ كبير في وضع الذات/ الفرد العراقي أمام تشوهات كبيرة، واعطاب معقدة، فالجماعة لم تستطع أن تؤسس أنموذجها الناجح للدولة، ولا للمدينة، ولا للمؤسسة أو الحزب، أو حتى للبنية الفاعلة، فالدولة ظلت غارقة في صراعاتها وفي فشلها الهيكلي والوظيفي والتداولي، والمدينة ظلت فقيرة وشاحبة ولم تتخلص من عقدة" القرية" بطابعها التريّفي والعصابي، فضلا عن كونها ظلت مدينة غير صيانية، تعيش مظاهر الاستلاب الجماعوي والخدماتي والتنظيمي والتنموي، والمؤسسة ظلت جهازا تابعا للجماعة، وغارقاً في مظاهر غرائبية للفساد والترهل والرثاثة، والحزب، أي حزب ديني أو علماني ظل بلا هوية واضحة، وغير فاعل في تعزيز مسار الدولة والمؤسسة، قابل للانشطار مع انشطار المصالح، وأحسب أن العدد الضخم من الأحزاب التي شاركت في الانتخابات النيابية للعام الماضي تعكس مدى التسطّح والتعويم الذي تتسم به أغلب تلك الأحزاب..

 

الحالة العراقية وتاريخية العصاب..

قد يبدو هذا المُعطى مثيراً للجدل حول التوصيف، وحول مقاربته مع أصولية الرؤية الخلدونية القائمة على فكرة العصاب، فهل أن دولتنا هي عصابية حقا؟ وهل أنّ فكرة المحاصصة، والظاهرة الطائفية فيها تأكيد لهذا العصاب؟ وهل أنّ فشلها وعجزها يعود الى تغوّل مظاهر هذا العصاب بنيويا، ووظيفيا؟

لقد وضع إبن خلدون تفسيره على أساس حاجة الدولة" المركزية" في القرن الرابع عشر لأنموذج الدولة التي تقاوم الغزو، وعلى اساس تكريس بنيتها العصابية والطائفية والقبلية، وبما يجعل فكرة الخضوع لها أمراً موجباً وضرورياً، لأنها مصدر الحماية والصيانة والمقدس، لكن هذا النموذج الخلدوني فشل في حماية" الأمة" وفي حماية" المدينة" لأنه كرّس من خلالها أنموذجاً لهيمنة الهوية الكبرى، والجماعة الكبرى، ولكلِّ مايتعبها من توصيفات طائفية وفقهية للمؤسسة والمدرسة والمدينة ولمفهوم الحكم. حيث بدت المدينة/ مجال الحكم أكثر تحصينا وشرعنة لأيديولوجيا الجماعة، وبدت المؤسسة أكثر تمثيلاً للوظائف الشرعية لحكم الجماعة، وهو ما أسهم الى حدٍّ كبير في صناعة الأنموذج الشرعي للدولة المركزية، والذي فرض براديغمه في المنطقة على هوية تلك الدولة، وعلى توصيف الجماعة.

ظاهرة الدولة الطائفية همشت الى حدّ كبير من أنموذج الدولة السياسية، أو فصّلتها على مقاسها، ومنها ماكان في العراق منذ نشوء الملكية عام 1921، والى الجمهوريات الخمس، إذ أسهم هذا التراكم وطوال هذه السنوات في ايجاد فراغات بدأت تتضخم وتتسع خارج ماهو مُتخيلّ في "المجال التداولي" للدولة المدينة والمؤسسة والحزب، وأحسب أن التظاهرات الأخيرة كانت تعبيراً " لاواعياً" عنها، وعن أزمة انهيار صورة الدولة القديمة، وأزمة جماعاتها الأكثر تمثيلاً لمهيمنات العصاب القومي والطائفي والجماعوي..

فشل الأنموذج الخلدوني تكرر للأسف مع أنموذج الدولة" البرلمانية" عبر تعطيل دورها في انجاح مشروع الدولة الديمقراطية، وفي تأهيل المدينة والمؤسسة والحزب، لكي تكون من المصادر المهمة في التخلّص من ذاكرة العصاب الخلدوني، ولتنمية ماهو إنساني فيها، عبر تحريك عجلة التنمية والمشاركة، وعبر تفكيك المركزيات، وتجديد الخطاب، وتفعيل مضمونه، فضلا عن تجديد شكله وأدائه في مخاطبة التشكّلات الجديدة، والتي لم تنخرط في تاريخ الجماعة، لها حساسيتها ولها اهتماماتها، وطموحاتها، وأنّ مابدا واضحاً في هوية هذه التشكلات، وعن تصاعد دورها في الطابع التظاهري والاحتجاجي، وحتى العنفي أحيانا، والذي كان تعبيرا عن مواجهة الإهمال والتهميش والعزل والبطالة، ولكل المركزيات التي فرضت نفسها على الدولة والمدينة والمؤسسة، والتي كانت مركزيات غير فاعلة وغير حقيقية، إذ اغرقت الدولة والمدينة والمؤسسة بالفساد والفشل والعجز، وهو مازاد من معاناة هذه التشكلات العاطلة عن العمل، والمُهمشة اجتماعيا وثقافيا ومؤسساتيا.

إن الحديث عن إصلاحات ومعالجات ينبغي أن تقترن بعملية تفكيك حقيقي للبنية العصابية، لصالح بنيات مدنية وشبكات اقتصادية تتجاوز فيها عقدة الطائفية، وعقدة الفشل في انتاج الدولة الحديثة والمدينة الحديثة والمؤسسة الفاعلة، وايجاد سرديات أكثر تعبيراً عن حيوية هذا التحوّل والتغيير، عبر تعديل الدستور، وإعادة النظر بهيكلة الدولة، وتنشيط القطاعات المدينية والخاصة، وعبر سياسات اقتصادية وثقافية فاعلة تؤمن بالتخطيط والعلم والمعرفة، وليس بالعشوائيات التي استغرقت الواقع العراقي..

لقد نجحت الجماعة في مواجهة الارهاب والتكفير الداعشي، وهي مسؤولية كبيرة على مستوى الالتزام بالفتوى الجهادية، أو على مستوى إيجاد "عسكرة" وطنية تملك الأهلية والقوة لمواجهة التكفير المدعوم بالتاريخ، وبالجماعات الارهابية، وبالعصابيات المناطقية، وهذا ما كان حافزاً لم يُستثمر بعمق في تحويل الفكرة الجهادية الى سياسات عمل وبرامج للنهوض بمشروع الدولة، وبناء المدينة/ العمران النموذجي والمؤسسة الحقيقية في توصيفها وفي وظيفتها.

إن مايجري من تظاهرات واسعة، ومن مطالب تعكس في جوهرها أزمة الدولة والمؤسسة، يفتح الأفق أمام معطيات جديدة ينبغي أن تؤخذ بالحسبات، على مستوى صياغة خطاب إعلامي جديد وفعال، وتبني سياسات ستراتيجية تخصّ العمل على إنشاء مراكز للشباب، والى دعم البرامج التي تعني بالصناعة الثقافية، والدراما والسينما، وإيجاد إطار تخطيطي للمؤسسات التعليمية، ولفتح مكتبات عامة ومراكز بحوث علمية وثقافية، فضلاً عن المبادر الى الاعلان عن جوائز كبرى لتشجيع العمل العلمي والثقافي والفكري، لاسيما بين قطاعات الشباب بوصفهم القوة الفاعلة في التظاهر وفي الحراك الاجتماعي..