حكايات أسطورية من شبه جزيرة القرم

Monday 9th of December 2019 08:06:06 PM ,
العدد : 4565
الصفحة : عام ,

د. عبدالحسين الطائي

أبدع الدكتور حسن البياتي بترجمة كتاب (أساطير القرم)، الصادر عن دار القرم للطباعة والنشر سنة 1961، من اللغة الروسية إلى اللغة العربية.

وقد اعيد بعنوان: حكايات أسطورية من شبه جزيرة القرم، بعد تصميم الغلاف بحلية جميلة في شهر أيلول 2019.

اهتم علم الأساطير في عرض الأحداث الفلكلورية التي تخص بعض الثقافات لتفسير بعض المظاهر التي تتعلق بالطبيعة والإنسان، عَرف كتاب الموسوعة الفلسفية الأساطير بأنها، مجموعة حكايات تولدت في المراحل الأولى للتاريخ، ولم تكن صورها الخيالية إلا محاولات لتعميم وشرح الظواهر المختلفة للطبيعة والمجتمع. وتتشكل أغلب الأساطير من وحي الخيال، وكلها تتغلب على قوى الطبيعة وتجعلها ثانوية، وتعطي تفسيراً لكثير من ظواهر الطبيعة، ولأشخاص يمتلكون قوى خارقة، وهي من الأساليب الأدبية التي لا تخلو من الحكمة، والدروس الحياتية، وفيها متعة كبيرة للمتلقي.

تضمن الكتاب ترجمة أربعٍ وثلاثين حكاية أسطورية من شبه جزيرة القرم، التي تمتاز بموقعها الجميل في شمال البحر الأسود، وبطبيعتها المشمسة الخلابة ومناظرها الرائعة، ومكانتها التاريخية. الحكايات كلها مجهولة المؤلف، عدا واحدة للأديب الروسي مكسيم غوركي، حكايات نابعة من الموروث الشعبي، تم سردها شفاهاً وتناقلتها الأجيال، اتسمت معظم الحكايات بطابع التشويق، والأسلوب البسيط الذي يحافظ على القيم الجمالية، ولا تخلو بعض الحكايات من المبالغة المستحبة لدور أبطالها، ومدى تفاعلهم مع القوى الخارقة، بعض الحكايات أبطالها من السحرة والساحرات، وأحداثها مستمدة من ظواهر ومشاهد مادية ملموسة كالجبال والصخور والبحار، وبعضها من صنع البشر كالمدن والقرى والقلاع وغيرها. 

تشير أغلب الحكايات إلى البطولة المميزة للشعب، الذي يؤدي دورها النضالي البطولي ضد الغزاة والمحتلين، بإخلاص متفانٍ يجسد حقيقة حب الوطن، والتصدي لقوى الشر. استوقفتني الملحمة الجميلة لحكاية (المهد المخبأ في جبل باصمان)، التي بينت مدى تعلق الشعب الجبلي بإرثهم المقدس، المهد الذهبي، شعبٌ ينبض في مهجته حب الوطن، رفع راية المهد الذهبي كهوية وطنية، بقولهم: (إن أبناء شعبنا لا يخافون أحداً، وأحرى بهم أن يسقطوا جميعاً عن بكرة أبيهم في ساحة المعركة من أن يبيعوا كرامتهم)، ملحمة صمود للشعب الجبلي ضد الغزاة الساحليين، صورة تتكرر في أكثر المراحل الزمنية، عند الشعوب التي تعتز بأرضها وهويتها، ترفع الرايات الوطنية كرمز للهوية وتعبيراً عن مدى التعلق بحب الوطن، وهذا ما نشاهده اليوم في أكثر البلدان التي تنتفض ضد السلطات الجائرة، بأنها تتمسك برفع الراية الوطنية الرمز المُعبر عن وحدة الشعب ضد الظلم والطغيان.

وتجلّت وحدة الشعب ضد الجشع الآدمي في حكاية (الحصن الطويل)، التي بينت عمق الطاقة العظيمة الكامنة في كيان الشعب ضد جشع التاجر (رمز السلطة الجائرة)، حكاية تروي مدى قوة الشعب في استرجاع حقوقه المنهوبة، ومدى خوف السلطة من نقمة الشعب، ودور السائح الروسي في التعاضد مع السكان في التصدي للتاجر اللئيم. وهناك أسطورة (الجبل ذو الهدهدين – اوبوك)، التي عكست حالة، تعيشها الكثير من المجتمعات، لطبيعة الصراع بين مواطن الخير ونقيضه، امرأتان جاءتا من بلاد سكانها بخلاء وحسودون، ورمت بهما الأقدار في قرية أهلها بسطاء، بعدما غرقت سفينتهم قرب ساحل الجزيرة، تم الترحيب بهما بكل سخاء، ولكنهما تجبرتا وشكلتا حاشية تنشر الرعب بين سكان القرية، وتستحوذ على كل مقدرات الناس الكرماء، إلى أن أطل على القرية حكيم قادم من بلاد المشرق، تصدى للمرأتين، وأنقذ سكان القرية ومكنهم من الوقوف بوجه الشر، وبشكل أسطوري خارق أوعز الحكيم باختفاء المرأتين، وتحويلهما إلى طيرين (هدهدين)، وسرعان ما ارتفعت من قاع البحر صخرتان كبيرتان تشبهان السفن، في المكان الذي غرقت فيه السفينة، هاتان الصخرتان – السفينتان تذكران الناس بالأحداث المؤلمة التي واجهها سكان تلك القرية. 

وحكاية (نافورة الدموع)، تتحدث عن سلطة الحكام المتعطشين للدماء، وكيف يحافظون على عروشهم بكل الأساليب الوحشية، الخان هو الذي استعاض بالسلطة والمجد عن كل شيء: عن الحب، والبشاشة، وحتى الثروة، وقد شاع بين الناس بأن الخان لا قلب له. وتدور الأيام، وفي ذات يوم جاءوا له بجارية سبية جميلة، أحس وهو في خريف العمر بأن قلبه بدأ ينبض بالحياة، وعمل المستحيل بأن يجعلها تميل إليه، ولكنه لم يستطع. لم تعش طويلاً تلك الصبية، عندها أدرك الخان كيف يعاني القلب البشري عندما تلمّ المصيبة بحامله، فأصبحت حياته شاقة، فاستدعى فناناً ايرانياً ماهراً، وطلب منه أن يصنع له من الحجر عملاً يحمل الحزن على مر العصور، طلب منه أن ينحت الحجر بحيث يبكي مثلما يبكي فؤاده. فحفر الفنان على لوحٍ من الرخام بتلة زهرة واحدة، ثم أخرى... وفي وسط الزهرة نقش عيناً بشرية، تسقط منها على صدر الحجر دمعة رجالية ثقيلة دون أن تتوقف على مدى السنين والأزمان. لوحة جميلة تحمل الحب والشجن، نافورة تبكي، تبكي في الليل والنهار تجسد المشاعر الإنسانية بكل صورها، تحمل البهجة والكآبة، الحب والكراهية، تمثل حياة وموت الفتاة الجارية، ومعاناة الخان صاحب القلب الحجري الذي أحب تلك الفتاة.

تجلّى حضور العنصر النسائي بشكلٍ بارز في أغلب الحكايات الأسطورية، ففي حكاية (كيكييا – بطلة خيرسونيس)، تجسد كيكييا ملحمة بطولية بعد أن وضعت مصالح شعبها ووطنها فوق كل شيء، فهي التي قررت بأن تدمر الأعداء، بمن فيهم زوجها، الذي اتضحت خيانته لشعبها. وبذلك سمح رؤساء المدينة لبطلتهم (كيكييا)، بأن تختار وهي على قيد الحياة، مكاناً لدفن جنازتها داخل المدينة، وميّزوه بتمثال نصفي - على هيأة صدر امرأة – من النحاس الموشى بالذهب، المنقوش بعبارة ناطقة بمأثرتها البطولية الجريئة. أما حكاية (أوكسانا)، فهي تمثل صلابة الفتاة الفاتنة التي وقعت أسيرة مربوطة اليدين، لدى قطيع من قبائل القرم الرحل الذين انقضوا على قريتها الآمنة، وتم بيعها وتوصيلها إلى مدينة غريبة، لم يتمكن أحد من لمسها، ولم يذهبوا بها إلى الخان، حيث كانوا ينتظرون أن تضعف عزيمتها، كانت ثمة قوة داخلية هائلة تسندها، ولم تفقد الأمل بأن ينقذها حبيبها، الذي تمكن من الوصول إليها متنكراً، فأنقذها بمعجزة بطولية كبيرة، بعدها تمكنا من الهرب بعيداً عن حاشية الخان. وبالمقابل يحدثنا التاريخ عن مصير الكثير من الفتيات الجميلات اللاتي ينتهي بهن الأمر حريماً في قصور خانات التتر أو سلاطين الأتراك، على أيدي قراصنة تجارة الرقيق، لا سيما خلال فترة الحروب التي كانت تدور بين جيوش الدولة العثمانية وروسيا القيصرية.