شيعة العراق .. لماذا خسرتهم إيران ؟

Saturday 14th of December 2019 07:28:25 PM ,
العدد : 4568
الصفحة : آراء وأفكار ,

 فوزي عبد الرحيم

لقد تميزت السياسة العراقية تجاه إيران بالحكمة وحسن التقدير والفهم وقد استمر ذلك منذ تاسيس الدولة العراقية مروراً بعدة أنظمة حكم الى حين وصول صدام حسين للحكم عدا فترة قصيرة خلال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم

حين حاولت إيران الاستفادة من وضع النظام الجمهوري الجديد لتحقيق مكاسب في شط العرب حيث ردت حكومة الجمهورية الجديدة بشكل حازم وانتهى الموضوع عند هذا الحد..رغم ذلك فان شيعةالعراق لم يتميزوا بموقف يخالف حكوماتهم من إيران رغم أن بعض هذه الحكومات كان الشيعة يتهمونها بالتمييز ضدهم ورغم حقيقة أن معظم المراجع الدينية للشيعة كانوا من أصول ايرانية وهو أمر حاولت إيران الشاه دونما نجاح يذكر النفاذ من خلاله للتأثير في الوضع الداخلي العراقي,فرغم دعاوى الشيعة بانهم يخضعون للتمييز والتي لم تتوقف منذ تأسيس الدولة العراقية 1921 فان الهوية الوطنية العراقية التي تشكلت وازدهرت بفضل نضال الحركة الوطنية العراقية والتي استقطبت العراقيين بحسب موقعهم من العملية الانتاجية وعقائدهم السياسية وصهرتهم في أهداف وطنية عليا واستمر ذلك حتى مجىء صدام جسين للسلطة وتبنيه سياسات قاسية ضد الحركات السياسية الدينية الشيعية التي ازدهرت بدورها في المراحل الاخيرة من حكم حزب البعث بزعامة البكر لكن كل ذلك لم يطرح اشكالية الهوية الشيعية وهو الأمرالذي تغير بعد وصول الاسلاميين الايرانيين للحكم والتأييد الواسع الذي حظوا به من قبل شيعة العراق وحيث إن صدام كان ينوي الدخول في حرب مع إيران فانه تعامل بقسوة غير مسبوقة ادت لاجتثاث أجيال من الشباب الشيعة وضع العقل الشيعي العراقي امام اشكالية الهوية وهو امر لم يمكن له ان يمر بسهولة بعد عقود من النضال المشترك مع بقية عناصر النسيج العراقي الأمر الذي حافظ على تماسك الشيعة وقوة صلتهم بدولتهم وهو مايفسر وأن ليس بشكل كامل مساهمة الشيعة الفاعلة في الحرب ضد إيران وهكذا انتهت الحرب العراقية الإيرانية بعد 8 سنين من التضحيات البشرية الهائلة والدمار الاقتصادي دون حدوث الصدع الذي عمل زعماء الجمهورية الاسلامية على إحداثه في المجتمع العراقي.

عند احتلال العراق ورغم فرح الشيعة بشكل عام بسقوط النظام لم يكن هناك توجه عام للتعاطف أو التقارب مع إيران بل على العكس لفترة ما بعد الاحتلال كان هناك قدر من التفهم للموقف الاميركي وصدود عن الدعاوى الايرانية ..بعد عودة الاحزاب الدينية الشيعية من منافيها وفي ظل فراغ سياسي ناجم عن التغييب القسري للأحزاب السياسية بفعل سياسات البعث وغياب البعث نفسه ,بدات الاحزاب الدينية بممارسة تاثيرها على الجمهور الشيعي الذي كان بوعي متدني بسبب عقودالدكتاتورية والتجهيل لكن وفي خط موازي نشطت المؤسسة الدينية الايرانية والمخابرات بالعمل الواسع والدؤوب على الشرائح الاكثر فقراً والاقل وعياً وغيرهم من الشيعة حيث عملت على تكريس الفوارق بين الشيعة العراقيين وغيرهم من المكونات العراقية وتأكيد وحدة مصير الشيعة العراقيين مع الدولة الشيعية الوحيدة في العالم وحثهم على التمسك بشيعيتهم بدلاً عن عراقيتهم لضمان حصولهم كأغلبية على الحكم ..لقد استخدم الايرانيون فهمهم للمجتمع العراقي وحنكتهم السياسية وصبرهم المعروف لإحداث تغيير في المزاج الشيعي حقق نجاحاً محدوداً في البداية الى أن بدأت الامور بالتغير إثر تزايد العمليات الارهابية التي استهدفت الشيعة ومناطقهم السكنية وخصوصاً تلك التي تحمل رمزية هامة كالنجف وكربلاء والكاظمية حيث بدأت الدعاية والتأثير الإيراني يحققان النجاح خصوصاً مع إبداء إيران الدعم للأحزاب الدينية الشيعية لتصبح إيران المدافعة الوحيدة عن الشيعة وسط إقليم معادي حيث كانت الدول العربية تصرح علناً بعدائها للنظام الجديد بدعاوى مختلفة ومنها ياللغرابة إنه صنيعة للاحتلال الاميركي ( الصديق)..لقد تغلغلت إيران في كل مسامات الأحزاب الدينية التي أخذت بالتوسع والانتعاش بسبب سيطرتها على مفاصل الدولة التي حصلت عليها من دخولها في العملية السياسية التي كانت نصيحة إيرانية,فقد وصل التأثير الإيراني الى حد اشعار الكثيرين من الشيعة بالذنب لمشاركتهم في الحرب العراقية الايرانية وتسببهم في ايذاء الجمهورية الشيعية وهو امر عبر عنه عبد العزيز الحكيم بتصريح قال فيه إن ايران تستحق تعويضات عن الحرب العراقية الايرانية بمئة مليار دولار ..لم تقف جهود إيران عند هذا الحد بل نجحت في تكوين جماعات عراقية مسلحة تقاتل الاميركان من الشيعة والسنّة ما كبد الاميركان خسائر بشرية أدت في النهاية الى انسحابهم من العراق لتنفرد إيران بالعراق وتبدأ صفحة جديدة من العلاقة الشيعية العراقية الإيرانية.لقد أكدت الأحداث وكما أرادت إيران إن شيعة العراق في خطر وان حليفهم الوحيد هو إيران الشيعية وكان آخر تلك الاحداث هو غزو داعش وسيطرتها على مساحات شاسعة من العراق وتدخل ايران السريع في إعادة ترتيب أوراق الحكم العراقي للدفاع عن بقية المناطق المهددة كمرحلة أولى قبل رد هجومها وهزيمتها.لقد كان التعامل الايراني حذراً في خطابه الموجه للعراقيين فلم يمس السيادة ولم يستشف منه اية أطماع في العراق الأمر الذي تغير لاحقاً وتمثل في عدة حوادث عبرت فيها إيران عن اطماع ودعاوى ضد المصالح الوطنية العراقية.

رغم حدوث عدة مواقف أظهرت فيها إيران استهانة في المصالح العراقية مثل موضوع مياه البزل وتوجيهها الى الاراضي العراقية أو موضوع الحقول النفطية في العمارة وغلق بعض الأنهار المتوجهة للاراضي العراقية لكن ذلك لم يكن كافياً لتغيير موقف الشيعة العراقيين من إيران غير أن زيادة النفوذ الايراني في العراق جعل إيران أكثر جرأة في التصريح عن أهدافها الحقيقية ونظرتها الى العراق فبدأت بين الفينة والاخرى تصدر تصريحات من مسؤولين ايرانيين تعبر بشكل غير مسبوق عن استهتار باستقلال العراق وسيادته حتى وصل الامربأحدهم للادعاء بان العراق جزء من الامبراطورية الايرانية وانه عاد لوضعه الطبيعي..لقد ترافق ذلك مع مظاهر مهينة للنفوذالايراني تمثلت باستخذاء كل رموز النظام أمام كل التصريحات والتصرفات الإيرانية وبروز الدور الايراني في التاثير عن النظام من خلال الزيارات التي بعضها لم يراعي الاصول والاعراف الدبلوماسية وهو ما سعر النار التي بدأت تشتعل في صدور الشيعة العراقيين إزاء إيران..لقد ترافق ذلك مع تراكم مشاكل البلد وتكريس فشل النظام عن تقديم أي حل وهو الأمر الذي فاقمته ردود فعل السلطة على الاحتجاجات السنوية التي تكرر فيها مشهد الرد بالقمع دون أي تقدم عملي باتجاه حلول..لقد وصل النظام الى طريق مسدود جعل المواطن في حالة يأس مطلق سيما وإن أخبار الفساد الحكومي التي كانت تنتشر وتتجدد كل يوم قد أمدت العراقيين بمزيد من الكراهية والغضب واتضحت الصورة الكاملة للوضع المأساوي للعراق واستحالة ايجاد حلول له في ظل هذا النظام..خلال ذلك كانت إيران تفقد تدريجياً كل ماحققته من سمعة وتعاطف لكن ذلك لم يتم التعبير عنه بشكل عملي إلا في حالات قليلة منها اطلاق شعارات معادية لإيران في ملعب لكرة القدم والأخرى كانت مفاجئة وهي حرق القنصلية الإيرانية في البصرة الأمران اللذان تم تفسيرهما بعيداً عن شعور الكراهية المتنامي ضد إيران,وعندما انطلقت الانتفاضة في الأول من تشرين الأول لم يكن أحد يتوقع أن تتوجه بالإدانة لإيران لدورها في حماية ورعاية النظام سيما وإنها قدمت في البداية اموراً مطلبية فقط مثل التعيينات والخدمات..جيل الانتفاضة لم يعش فترة الحرب العراقية الإيرانية كما انه لم يكن محملاً بالشحنات المذهبية التي تحملها الأجيال الاكبر فهو لم يكن له موقف من إيران ولايهتم بشيعيتها فهو لم يتعرض للتمييز الطائفي لكي يحس ان ايران تمثل نوعا من الحماية له في اقليم معادي لكنه ترعرع وسط انباء وشكاوى مكبوتة عن نفوذ ايراني كبير ينتهك استقلال العراق وان الحكومة العراقية تفرط بالمصالح الوطنية لمصلحة ايران بسبب ان معظم قادة البلد موالون لايران والاهم ان هذا النظام الفاشل الذي يشتكي منه الناس مدعوم من إيران وإن فساد هذا النظام يصب في مصلحة ايران..كل ذلك كان مخزونا في الذاكرة ولكن ليس في مقدمتها وعندما انطلقت الانتفاضة التي لم ترفع في البداية شعارات معادية لإيران ووجهت من قبل الإيرانيين باتهامات العمالة لاسرائيل واميركا وإن الامارات المتحدة والسعودية تمولهاوإن البعثيين يقودونها وهنا لايجب أن ننكر في ظل حراك شعبي واسع لاتقوده جهة معروفة في بلد يعيش أوضاعاً ملتبسة خرج بصعوبة من حرب اهلية مدمرة مزقت نسيجه الاجتماعي وجعلت الفرقة والشكوك المتبادلة هي الحاكمة للعلاقات بين أطرافه انه كان من السهل على بعض المعادين لايران من التسلل واستغلال الاخطاء الايرانية لتوجيه الجمهور بشكل مكثف ضد إيران وهو أمر كرسته التصريحات والممارسات الإيرانية بحيث لم يعد ممكناً السيطرة على الشعارات المعادية لإيران لتصبح أولوية للانتفاضة مع تزايد أعداد الضحايا من المتظاهرين وانتشار الأخبار من أن الجهات التي تسببت في هذه التضحيات هي ميليشيات تأتمر بأمر طهران..اشتعلت الذاكرة العراقية المخزونة بكل أنواع المعلومات التي تبرر كراهية إيران وأخذت هذه المعلومات موقعاً متقدماً اذكاه توسع مطاليب الانتفاضة ورفعها شعارات وطنية ألهبت مشاعر العراقيين وأحيت الروح والهوية الوطنية التي كانت في حاجة الى عدو اجنبي تتوحد ضده..

لقد خان إيران ذكاؤها المعهود وصبرها المشهور فتخلت عن الحذر منذ أن استتبت الامور لها في العراق فكانت استجابتها لهذه التطورات تتميز بالعنجهية وانعدام الحكمة سيما وإنها لم تدرك أن هذا الجيل من المنتفضين لا يحمل أي دين أو مشاعر وفاء كالتي تحمله الأجيال الأخرى..لقد خسرت إيران شيعة العراق بل خسرت العراق ولم يعد إصلاح ذلك ممكناً ضمن الأمد المنظور وتحت ظل النظامين في بغداد وطهران حيث سيواجه أي نظام جديد في البلدين مشاكل متراكمة وتعقيدات لن يكون حلها سهلاً لاسيما وإان الجغرافية السياسية حكمت على البلدين بتعارض مصالحهما في ملفات عديدة.