طائر شمس الدين..أسطورة ذاكرتها قرون

Monday 6th of January 2020 07:14:42 PM ,
العدد : 4583
الصفحة : عام ,

ناجح المعموري

وجدتُ في نصوص محمد علي شمس الدين نوعاً من حضور السرد الذي عرفته التجربة الشعرية العربية ، لكنه يعوض ذلك باتساع المعنى وتنوعه ، بحيث يتحول كما في نص الطائر الى سردية طافحة بالغنائية ،

ليس باعتبارها نوعاً من ابتداءات الشعر العربي الحديث ، بل لأنها قادرة على ديمومة المعنى واستمرار حركته بالشعر . وهذه هي الحداثة الرومانسية التي أشار لها جادامير في " من أنا ومنْ أنت " رومانسية انشغلت ووظفت الغنائية وليس الصورة ، وأيضاً المعنى لأنه شاعر ذكي ،

جعل المتلقي بحضوره القوي متشابكاً مع النص راكضاً نحو المعنى وحفاراً في طبقات النص . وقد ذكرت في مقالتي التي قدمتها محاضرة في اتحاد الأدباء واستمع لها الشاعر بأن محمد علي شمس الدين يظل حاضراً مع نصه ، غير قادر على مفارقته ، حتى يتمكن من توليد المعنى الجديد . والجديد يذهب نحو ما هو مغاير ومختلف . ويعني هذا أن المعنى الغائب حاضر ، ومتكرر الحضور ، أي هو مستمر التوالد ويتمتع بسيرورة ، تبدو أحياناً مبالغ بها ومثالي بذلك هو النص الذي اعنيه وهو من النصوص الشعرية ذات الفرادة ، لأنها وفرت القص الغنائي والحضور الرمزي والاستعاري المتحرك . وكأن الشاعر يورث المتلقي ما هو حلم لديه ويذهب الى متلق آخر ، إحدهما يتجه نحو الآخر ومثل هذا التناوب بابتكار القراءة ، يمنح الشعر طاقة مقاومة لزواله ، وفر له فضاء للديمومة . 

الشعر طاقة الحياة الحقيقة ، غير القابلة بالتوقف . فالمعنى لا يتوقف ... هنا مكمن حيوية نص شمس الدين المثير للإرباك والتوتر ، والقلق ، ومن هذه معاً تستمر شحنة المعنى بقوتها حتى تتكرس تجربة شمس الدين ذات الخصوصية المتكونة من كلمات وليس الصور والمعاني فقط .

اللغة تلتقط الصورة ، لكنها ليست الصورة التي رآها الشاعر والتي تخيلها ، لأن تظل محاولة الحضور مع الصورة التي تمنحنا المعنى ، وتجعله متحركاً وغير ثابت ، لذا أنا اعتقد بأن نصاً سيحوز هذه الصفة ولن تقوى القراءة الختم عليه ، لأنها قراءة نتاج الفضاء الثقافي الشخصي للمتلقي ، ومعروف بأن الفضاءات غفيرة جداً ، عددها مساو لعدد من يقرأ النص ويحاول التفكير برأي عنه ، حتى وان لم يكن في حدود الموقف النقدي . الحكاية التي تضمنها نص ظلت مفتوحة لكنها مغلقة لوجود كتم فيها مضافاً لذلك الأسطرة التي زحفت على النص وتحول الزمن فيه سيالاً ، وليس سهلاً الامساك بتوقع تحديده .

أثار هذا النص سؤالاً جوهرياً ، لكنه بسيط جداً ، صاغ بؤرة السردية بطاقتها الغنائية . والسؤال هو حول الطائر الصامت وعمره الممتد لعديد من القرون ، التي تتجاوز تقديرات القراءة لمجموع السنوات الكلية للأجيال التي وردت الاشارة لها في النص ضمن تكررات مفردة الأب والجد .

اللغة في نصوص شمس الدين 

ومع كل الوضوحية فيها ، لكن الشاعر يلوي عنق الوضوح باتجاه العتمة ، وهذا أمر غريب : الوضوح ، العتمة ، الفهم ، التشوش ... هذه تضادات الروح الشعرية التي تهيكلت عليها بعض نصوص الشاعر ، ومثلما قال فاليري : الكلمة لا تقول إلا عن معناها . وهنا يتضح الاختلاف بين الكلمة والملفوظ المتوتر بالصوت ، لأن المحكية الغنائية ذات صوت إيقاعي تفتح أمامنا المفهوم . الكلمة في تكتمها هي مماثلة للمعان الذهب . 

واعتقد بأن جادامير في كتابه الذي أشرنا له ذهب الى ما اسماه هايدجر وهو يتحدث عن الشاعر تراكل : إن الكلام كلام مفتوح ، ويعني بأنه يتسع للمعنى من خلال رومانسية الحداثة وغنائية الشعر ، لأن الكلام فضاء متسع .

***

تشوش المعنى أو فقدانه كما في نص الحلاج وأيضاً النصوص الصوفية الأخرى ملمح فني في تجربة شمس الدين وبالتالي تذهب عن الزوغان والتشتت وصعوبة الأمساك بما يريده النص او الشاعر . وتبدت لي صوفيات الشاعر مماثلة لما قاله هايدجر عن كلام الشاعر تراكل الذي كتب كثيراً من الكلام ، وجعله لدى المتلقي صعباً وعصياً .

لم تكن صوفيات الشاعر في ديوانه ( النازلون على الريح ) صلدة ، ليست مرنة ، فيها زوغان لحظة الالتقاط للحلم الأسطورة ، وفيها رطانة لينة وصعب الامساك بها ضمن السياق . وفيها حضور الالتماعات المقدس الذي لا يقوى على تجاوز لحظة الحضور ، لأنه باق وماثل بقوة الإشارة والعلاقة التي ذهبت نحو الآخر ، الأكثر خطورة ، بمعنى الأقوى في حضوره وقدرته على جذب التجمهر وإعادة إنتاجه واشتغاله حتى يتمكن من صوغ نظام رمزي ( لأن الرمز عنصر كشف ، أو عنصر مساعد على استجلاء بعض ما خفي في الوجود ، ويصعب ادعاء القبض على مفهوميته ، كما هو الشأن بالنسبة للمقدس .