جويس كارول أوتس..إيمانُ كاتبة.. الحياة - الحِرْفة - الفن

Tuesday 7th of January 2020 07:31:40 PM ,
العدد : 4584
الصفحة : عام ,

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

جويس كارول أوتس Joyce carol Oates ، المولودة 1938 ، روائية أميركية تمثل ظاهرة فريدة في غزارة الانتاج والانتشار .

نشأت في ضواحي نيويورك وفازت بأول جائزة لها في مسابقة الرواية عندما كانت طالبة تتمتع بزمالة دراسية في جامعة سيراكيوز- وتخرجت من الجامعة بتفوق ثم حصلت على درجة الماجستير من جامعة ويسكنسون ، وفي سنة 1968 عملت مدرسة في جامعة ويندسور ثم انتقلت في 1978 الى ولاية نيوجيرسي لتدريس الكتابة الابداعية في جامعة برنستون ، وهي الآن استاذة متمرسة للإنسانيات .

جويس كارول أوتس مرشحة مزمنة على قوائم جائزة نوبل للأدب ، ولم تغفلها هذه الترشيحات للسنوات العشر الماضية على أقلّ تقدير . 

أقدّم أدناه ترجمة لمقالات منتخبة كتبتها (جويس كارول أوتس) في شتى الحقول الإبداعية والفكرية ، وتضمّ هذه المقالات تنويعة تعكس خصائص فكر الكاتبة المبدعة والطيف المتنوع والواسع لانشغالاتها الحياتية فضلاً عن الإبداعية .

 المترجمة

القسم الخامس

أليس في بلاد العجائب : استذكارات

تكلّم بخشونة مع طفلك الصغير 

واضربه عندما يعطس ؛

هو يفعل هذا بقصد الإيذاء فحسب ، 

لأنه يعلم أنّ هذا الأمر يُغيظ .

لنلاحظ هنا : كلّما كانت القافية أكثر تأكيداً على الإعتبارات الشكلية الصارخة كان هذا أكثر جذباً لإنتباهة الطفل واستحواذاً على أسماعه ، وحتى نحن - الكبار - نستطيب الإستماع إلى مثل هذا الشعر الزائف الذي ينحو منحى التقليد الصرف الذي يركّز على فتنة الكلمة والإيقاع الموسيقي بدلاً من الاهتمام الكلي بالجوهر الحقيقي للكلام المكتوب . 

جابرووكي Jabberwocky : هو العمل الأكثر إيغالاً في توظيف سحر القافية وطريقة ترتيب الحروف في عنوانه ؛ الأمر الذي جعل منه العمل الأكثر قدرة على حثّ أمتع الإنطباعات وأعظمها تأثيراً في نفسي ، وبقدر مايختصّ الأمر بالأطفال الصغار الذين لم تزل عقولهم تجاهد في متاهات اللغة ، يكون للكلمات كينونة فاتنة - كما السحر - في كلّ الأحوال ، وفي عالم الطفل ( الذي يختلف جوهرياً عن عالم الكبار ) ليس ثمّة من طفل يقيمُ حاجزاً بين الكلمات ذات المداليل " الحقيقية " وتلك الكلمات التي لاتنطوي على مداليل حقيقية ( أي بعبارة أخرى : عديمة المعنى ) ، وعلى هذا الأساس فإنّ عبارة مركّبة مثل العنوان المشعّ لكتاب لويس كارول ( جابرووكي ) قادرة على إثارة إنطباعيْن متلازمين في عقل الطفل : قلق طفولي عارم يتمثل في التساؤل : ماالذي تعنيه هذه الكلمات المركّبة المرعبة ؟ ، ومن ثمّ محاولة القبول بواقع الحال واسترضاء العقل بطريقة محببة هادئة تتمثل في القول : دع القلق جانباً ؛ فأنت قادر على فكّ مغاليق العنوان الملغّزة بمتابعة سياق القراءة التي ستأتي الآن . في الكتاب المعنون ( أليس المُفَسّرة The Annotated Alice ) والذي حرّره ( مارتن غاردنر ) تغطي الهوامش الشارحة لمتن الكتاب صفحات عدة وتضمّ كثيراً من الكلمات المكتوبة بخط صغير الحجم ؛ لكن برغم كلّ تلك الشروحات تبقى قصيدة ( جابرووكي ) هي القصيدة التي يتفق الجميع بأنها أعظم قصيدة تفتقد المعنى كُتِبت باللغة الإنكليزية على امتداد تأريخها . سُحِرتُ حدّ الدهشة التي خلبت لُباب عقلي باللغة الغريبة شبيهة الملغّزات السرية التي تنطوي عليها هذه القصيدة ، وكذلك بالأفعال التي تحصل فيها والشبيهة بكوابيس حافلة بشتى ضروب العنف - تلك الأفعال التي لم ترتدع ريشة ( جون تينييل ) في إضفاء المزيد من البشاعة عليها عبر رسوماته التي زيّنت متن الكتاب والتي نشهد فيها ، مثلاً ، وحشاً مجنّحاً متنافر الأجزاء له ذيل يماثل ذيل أفعى البايثون فضلاً عن مخالب عظيمة الحجم رهيبة المنظر ، وثمة أمام هذا الوحش الضاري طفل بالغ الضآلة يمسك بسيف صغير ! . لم يكن من مهرب أمامي وأنا أقرأ تلك القصيدة سوى أن أحبها وبخاصة أنني كنت طفلة تميل للتفكّر ومساءلة الوقائع ، ولابدّ أنني كنت تواقة لكي يخبرني أحدهم بأنّ سيف ( فوربال Vorpal ) الذي لامعنى مشخّصاً له في العالم الواقعي هو ذات السيف الذي تمسك به يد الصبي - ذلك البطل اليافع الذي وجد سَكينته ( وسط أغصان شجرة التُمتم Tumtum ، ووقف برهة ليعمِل تفكيره .... ) . ماأن قرأت هذه القصيدة حتى حُفِرت في أعماق ذاكرتي . من يعلمُ السبب ؟ حسناً : هذه هي الفنتازيا الطفولية التي تمثل ، ربما ، نوعاً من الدفاع الناجح للطفل إزاء العالم المجهول الذي يعيشه الكبار ، وهذا الفعل الطفولي في جوهره هو محاكاة ساخرة لحكايات المغامرة البطولية ؛ لكنني أظن ، وبقدر مايختصّ الأمر بي ، أنّ اللغة المركّبة ذات التنويعات غير المألوفة هي ماأثارتني أكثر من أي شيء آخر .

كيف تأتّى لنثر ( لويس كارول ) أن يكون له هذا القدر من التأثير على شِعري ؟ هل كان ثمة مؤثرات مباشرة له عليّ بأي شكل من الأشكال ؟ يمكن أن أقول بأنّ كتب ( أليس ) ربّما كانت لها مفاعيل على وجهة نظري الفلسفية / الميتافيزيقية تجاه الحياة بأكثر ممّا فعلت مع شِعري ذاته ، ويمكن للقارئ أن يلمح دوماً بعض العناصر المتنافرة ( الغروتسكية ) أو السريالية متناثرة في بعض أشعاري أو أعمالي الروائية . عندما كنت طفلة أقارب الثماني سنوات في العمر ربما أكون قد تشبّعتُ بحسّ لايمكن محوه من المرح البهيج والإنقباض الممرض ، وربما حصل الأمر بجرعات متساوية من الأمرين معاً ؛ ولكن حالي مع ( لويس كارول ) جاء مختلفاً عن كلّ الأشياء الأخرى التي إختبرتها في حياتي آنذاك ؛ إذ أنّ ( لويس كارول ) هو من حرّضني على إستكشاف العالم بطريقة لانظير لها في الإمتاع والبساطة . 

إلى جانب ( لويس كارول ) ثمة أيضاً أولئك الشعراء الذين قرأتهم ، وأعدتُ قراءتهم ، وأنا طالبة بعدُ في المدرسة الثانوية ومن ثمّ في الكلية ، وكان لهؤلاء الشعراء تأثير بيّن في العشرينيات المبكّرة من عمري ، ثمّ إنعكست مفاعيل هذا التأثير على كتابتي بالطبع في مراحل لاحقة . من هؤلاء الشعراء يمثل ( روبرت فروست ) بالضرورة ، وبطريقة لاسبيل للتشكيك فيها أو وضعها على محكّ المساءلة ، شاعري الأول آنذاك ، وتأثير شعر ( فروست ) واسع ومتغلغل في ثنايا الشعر الأمريكي كلّه ، وهو في هذا الأمر نظير لِـ ( ويتمان ) ، وعلى هذا الأساس لايمكن وضع ( فروست ) في موضع التقييم أو الإمتحان مع شعراء آخرين ! . دخل شعرُ ( فروست ) في ثنايا روحي وتملّك كلّ عقلي وإحساساتي بمثل مافعل نثر ( لويس كارول ) من قبلُ . لغة ( فروست ) التي تبدو مسطّحة بكيفية مخاتلة ، والإيقاع الفاتن في شعره ، وجمال تشكيل عباراته ، والتمازج المدهش بين الميل للمفارقة الساخرة والنزعة الرواقية - هذه الخصائص الفخمة لاتظهر في شاهدةٍ من شعر ( فروست ) بأفضل ممّا تظهر في قصيدته المسمّاة ( بعد قطف التفّاح ) ، وتلك قصيدة أعدّها الفُضلى بالنسبة لي بين قصائده وكنت قد قرأتها وأنا في المدرسة الثانوية وعمري يكاد لايزيد عن الخمس عشرة سنة فحسب . تمتلك هذه القصيدة الفائقة في جمالها وسوداويتها القدرة على إثارة إحساس غريب ذي مذاق خاص في نفسي لأنني كنت معتادة على قطف التفّاح والإجاص والكرز من بستان عائلتنا حيث كنت أقف على سلّم وأباشر القطاف على الرغم من عدم السماح لي بأن أبلغ في تسلّق السلّم إرتفاعاً يماثل الإرتفاع الذي كان يبلغه أبي على سلّمه الطويل . تكمن مأثرة ( فروست ) العظمى في أنه أتاح لكتّابٍ شباب مثلي إدراك أنّ تجاربنا العائلية التي قد تبدو للجميع أجزاءً من حيوات يومية عادية هي تجارب يمكن الإرتقاء بها لمصاف الفن الراقي بعيداً عن ملوك شكسبير المفخّمين وملكاته المتدثرات بالثراء وكلّ مظاهر النبالة التي لاتلامس نبض الحياة اليومية العادية . في شعر ( فروست ) بخاصة - ذلك الشعر المصفّى والمركّب كما بدا لي آنذاك ، وكما يبدو لمعظم الشعراء غيري - تنبثق لغة جديدة تماماً ( تختلف عن اللغة الشكسبيرية ، المترجمة ) حيث تكون شخوصه رجالاً ونساءً وأطفالاً مثل ذواتنا . شعر ( فروست ) هو ببساطة شعر موسوم بنكهة أمريكية مميزة وفي متناول أفهام الجميع . 

( بعد قطف التفّاح ) قصيدة آسرة لها فعل التنويم المغناطيسي في روح قارئها ، وكنت لم أزل مراهقة عندما قرأتها للمرة الأولى ؛ ولكن مع ذلك أستطيع حتى اليوم أن أتعاطف - مثلما فعلت من قبلُ - مع عباراتها التأمّلية الحزينة التي تصف شخصاً كبير السن ( ربما هو شاعر أيضاً ؟ ) يرنو ببصره نحو حياته الفائتة وثمة شعور يتمازج فيه الفخر بالندم يضطرم في دواخله ، والمعنى القوي والمضمر في القصيدة لايقبل الإلتباس أو المراوغة : حتمية الخسارة . أظنّني أكون في أقصى حدود الإقتراب من فهم ( فروست ) عبر قراءة هذه السطور :

For I have had too much

Of apple picking: I am overtired 

Of the great harvest I myself desired.

لِأنْ كان لديّ الكثير الكثير

من قطف التفّاح ، فقد نال منّي الإعياء

من فرط الحصاد الذي تشهّيتُهُ

تمثّل هذه القصيدة - بطريقتها غير الميّالة للتفخيم والإستعراض - عملاً مأساوياً من أعمال الفن ؛ لكن يبقى دوماً ذلك الوهج غير الهيّاب في المجالدة البشرية يعتمل في قاع الروح ، وهو أمر يحصل مع أرواحنا جميعاً .