قناديل: أعمارنا أثمن من أوهام السياسة

Saturday 11th of January 2020 06:37:16 PM ,
العدد : 4586
الصفحة : الأعمدة , لطفية الدليمي

 لطفية الدليمي

بحثت طويلاً عن توصيف مفاهيمي للإقتصاد بوصفه مبحثاٌ معرفياً : هل هو علمٌ أم فنّ أم مقاربة هجينة بين الاثنين ؟

وراقَ لي كثيراً توصيف البروفسور ( نيال فيرغسون ) أستاذ مادة تأريخ الأفكار في جامعتي أكسفورد وهارفرد؛ فقد إعتمد عبارة ( تأريخ الجشع ) لتوصيف الإقتصاد في كتابه اللامع ( سيرة النقد : تأريخ ماليّ للعالم ) - ذلك الكتاب الرائع الذي تحوّل إلى سلسلة وثائقية ملهمة . 

ليس الإقتصادُ وحده عصياً على التوصيف الدقيق؛ فثمة الكثير من المباحث المعرفية المتداولة أكثر إستعصاءً منه، وأحسبُ أن ( السياسة - مبحثاً وعملاً يومياً - هي الأكثر إستعصاءً على التوصيف من سواها،بعيداً عن كونها علماً أم فناً أم ممارسات عملية، وربما يمكن توصيفها بكونها توليفة هجينة من التأريخ والإقتصاد وعلم الإجتماع والسياسات العلمية.

لابد من الاشارة إلى أن معظم السياسيين اللامعين في العالم، شرقيين وغربيين ، كانوا قد درسوا منهاجاً دراسياً في جامعة أكسفورد عنوانه ( التأريخ والإقتصاد وعلم الإجتماع ) للدلالة على كون السياسة إشتباكاً معرفياً شاسعاً وليس وليد مهارات فردية متخيلة أو متوهمة لدى البعض. السياسة إذن مهنة مثل سواها من المهن التي تتطلب إعدادات أكاديمية مسبقة، وليست شيطناتٍ أو شقاوات أو ألسنة مفذلكة أو كاريزمات موهومة . 

يوصف عصرنا هذا بأنه عصرُ الشعبويات الشاملة، وربما يكون هذا التوصيف ناجماً عن الصورة النمطية لبعض السياسيين والتي زادتها وسائل التواصل الإجتماعي شعبوية فوق شعبويتها النمطية . بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، قد يبدو بشعره المنكوش شخصية مزدراة ؛ لكن كم منّا يعلمُ أن الرجل له مؤلفات رصينة تتجاوز العشر في مناحي معرفية شتى، وهي كتب محترمة حازت مقروئية عالية ؟ 

أردتُ من تنويهاتي السابقة أن تكون توطئة لكي أشارك القرّاء - العراقيين بخاصة - التساؤل التالي : لِمَ ينغمس العراقيون في السياسة ( والأصح أن يقال مايتوهّمونه سياسة ) إلى حدّ ينسون معه أن لهم حيوات ينبغي أن تعاش بطريقة صحية؟ هل العراقيون كائنات أفردتهم الطبيعة ليكونوا سياسيين بفعل قوانين الداروينية الوراثية أو الإجتماعية ؟

كثيراً مايتبجّح بعضنا أن الكثير من الغربيين لايعرفون عاصمة البلد الفلاني أو رئيس بلد آخر ، أو أنّ كثيراً من الأمريكيين لم يسمعوا بخبر اقتحام سفارتهم في بغداد في الأيام القليلة الماضية، وغالباً مارأى العراقي في هذه الحالة دليلاً على خواء حياة الغربيين ونقصهم المعرفي، وهي حالة تتضمن شعوراً بالزهو والإنتفاخ إزاء ضخامة قاموس العراقيين في معرفتهم بالوقائع والقدرة الموهومة على الإتيان بالتحليلات العميقة التي تعتمد مقاربات فنتازية يُراد منها التأكيد على ألمعية أفراد دون سواهم . 

هذا وهم خطير وأخدوعة كبرى . السياسة مهنة يتعاطاها من حاز على إعداداتها الأكاديمية والعملية ( شأن أية مهنة أخرى ) ويتقاضى في مقابل تعاطيها مالاً يعتاش به ؛ فلماذا تشغلُ نفسك - أنت الذي لم تختر السياسة مهنة- بفائض الكلام الذي سيغيب في لجّة المحيط الفيسبوكي الهائج أو في الأثير الواسع من غير جدوى اجرائية على الأرض ؟ 

التعصب لهذا الجانب أو ذاك يبعدنا عن وعي الحقائق وعيش الحياة؛ فالحياة البشرية قصيرة وثمينة، وعلينا أن نتعامل معها بروح نفعية تسعى لرؤية مكامن الجمال فيها وارتشافها وإضافة كشوفاتنا الشخصية إليها، بدل سفحها في صراعات بائسة نتوهم أنها ( سياسة ) .

لنتمسك بالحياة، ولاندعْها تنسلُ سريعاً وهي تتبدد في تداول أخبار طفيليات سياسية إستمرأت العيش على القتل والنهب وتزوير التاريخ .