الدولة والسِلاح في العراق

Wednesday 15th of January 2020 07:17:08 PM ,
العدد : 4590
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. لؤي خزعل جبر

أحدُ أهمُ أركان بنية الدولة هو احتكارُ وسائِلِ العُنف، بمعنى إنها الكيانُ الوحيد الذي يحق له امتلاك واستعمال السلاح، ولا يُسمَحُ بذلك لفرد أو جماعَة خارِجُهُ، ومتى ما حَدَثَ ذلك، غابَت الدولَة، وكانَت اللادولَة .

في العراق الآن، لادولَة، فالجماعات المُسلَّحة فيهِ لا تُعدُّ ولا تُحصى، وهي أقوى مِن الحكومة، بل هي من تُسير الحكومَة، وتتحرَّك بغطاءٍ ودَعمٍ من الحكومة، كما تفرِض وجودَها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بقوَّة السِلاح . ووجود هذهِ الجماعات هو أخطَر ما يهدد البناء الاجتماعي والدولتي في العراق، فما لم تُجرَّد تلك الجماعات من السِلاح لا يُمكِن إقامَة حياةٍ سويَّة .

وهذهِ الجماعات تُدافِعُ عن وجودها بالاستنادِ إلى مبررات متنوعة، وقد تتداخِل هذهِ المُبررات، لكن من الضرورَة تحديد التمايزات، وتعرية التبريرات .

• المُعارِضة السابِقة : هناك جماعات مُسلَّحة تشكَّلَت قبل (2003)، ولا نُريد هنا الخوض في ملابسات ذلك التشكيل، ومساهَمَتِهِ في محارَبة العراق، لكن تواصَلَت بعد (2003)، وتدخَّلَت في كتابَة الدستور بإضافَة كلمة (تكوين) إلى (المادة 9 : أولاً : ب : يُحضَر تكوين ميليشيات عسكريَّة خارِج إطار القوَّات المُسلَّحة)، فبدونِ تلك الكلمة يعني أن تكون محضورة، لكن بإضافتها صارَت المادة لا تسري على المتكونة مُسبقاً، بل ما يتم تكوينه في المستقبَل ! لكنَّ ذلك لا يُخفي حقيقة إنَّ هذهِ كتلك، بلا فارِق بين السابقة واللاحقة، فكل ميليشيا مسلحة خارِج إطار القوَّات المُسلَّحة تقف بالضد من مفهوم الدولة .

• الحَشد الشعبي : عندما احتلَّت داعِش الموصِل، دَعَت المرجعيَّة – فيما صارَ يُعرَف بفتوى الجِهاد الكِفائي – في (13-6-2014) : " العراقيين القادرين على حمل السلاح للانخراط في القوات الأمنية للدفاع عن العراق وشعبه ومقدساته "، لاحِظ " الانخراط في القوَّات الأمنيَّة "، إذ لم تكن دعوة لتشكل قوات خارجة موازية، ولكنَّ هذا ما حَدَث في الواقِع، لا في الأوراق، فالفصائِل المسلحة التي قارَبت السبعين وإن نُظمت بقانون " هيئة الحشد الشعبي " (رقم 40 لسنة 2016) كجزء من القوات المُسلَّحة، ويرتبط بالقائد العام للقوات المسلحة، لكنها – في الواقِع – بقيت مُستقلَّة عن الدولة، تستلمُ ميزانية من الحكومة، ولا تخضَع للحكومَة ! بدليلِ عدمِ تنفيذِ الأمر الديواني (279) الذي أصدره رئيس الوزراء بتاريخ (1-7-2019) لتحقيق الدمج الفعلي للحشد الشعبي بالقوات المسلحة، حيث تضمَّن : " دمج جميع فصائل الحشد الشعبي ضمن المؤسسة الأمنية، ووضعها تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة، وأن يكون مسؤولاً عليها رئيس هيئة الحشد الشعبي الذي يعينه القائد العام، والتخلي عن جميع المسميات التي عملت بها فصائل الحشد في معارك التحرير، وتستبدل بتسميات عسكرية، كما يحمل أفرادها الرتب العسكرية المعمول بها في القوات المسلحة، وتقطع هذه الوحدات أفراداً وتشكيلات أي ارتباط سياسي أو آمري من التنظيمات السابقة "، وبقائِه حبر على ورق !

• مقاوَمَةُ المُحتَل والصراعات الطائفيَّة والتهديدات المتواصِلَة : تشكَّلَت جماعات مُسلَّحة في بدايات الاحتلالِ لمقاوَمَتِهِ، كما تشكَّلت أخرى خِلال الحرب الطائفيَّة، وأخرى بسبب الواقِع الفوضوي، وإلى هذهِ الفئة تنتمي أغلَب الفصائِل التي دَخَلَت – وشُرعِنَت – ضمن تشكيل الحشد الشعبي، ولكل من هذهِ الجماعات قيادة وهيكلية وشِعار وعَلَم ومؤسسات وتمويل وجمهور وخطابات وممارسات خاصَّة، وتمثل القوى الفاعِلَة والمُهيمِنَة في الساحة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وهي – لا أقل حتى 2016 – ليسَت دستوريَّة، لكنَّ الحكومَة عاجزة عَن السيطرة، وبقيت كذلك حتى بعد أن أُخضِعَت لقانون، كما ذُكِر ! وهذِهِ الجماعات تستند إلى تبريرات واقعيَّة، كعجز الحكومة، والتهديدات المتواصِلة، وتكاثُر الجماعات المُسلَّحة، وقد امتدَّت وتعمَّقت وصارَت تتحكَّم بمفاصِل أساسيَّة من الدولة والمجتمع، بل ابتلعَت الدولَة، وتسيَّدت الفضاء العام، وجَعَلت كل من ينتقد أمام فوهات البنادِق والكواتِم !

نقد وجودِ هذهِ الجماعات أصبح من أخطر الملفات، فأنتَ تنتَقِد تاريخ مِن النضال والكِفاح ضد الدكتاتوريَّة، وضد المُحتَل، وضد داعِش، تنتقدُ من حماكَ وآمنَكَ، ولهُ دينٌ في عنقِك ما حييت، وعليكَ أن تنحني لتضحياتِهِ وخدماتِهِ إلى الأبَد، وبذلك أصبَحَت هذهِ الخطابات سيوفاً مُسلَّطة على رِقاب الناقدين !

لكن قولَ الحقيقة ضرورة ..

• جنودُ تلك الجماعات أصدقاؤنا وأخوتنا وأبناؤنا، ونحنُ نعرِفهم عن قُرب، ولا أحد يُزايد على حبنا لهم، وتثميننا لدورِهِم في مواقِف حاسمة، مِن قبيل مواجهة داعِش، والحماية من الجماعات الطائفيَّة المتطرفة، لكِن أن تقوم بموقِفٍ إيجابي لي لا يعني أن تستعبدني، وتجعلني أقبلُ منك ما لا يُقبَل، فأنا أضعُ موقفك الايجابي في أعمق منطقة في قلبي، لكنني لا أقبَل أن تتحوَّل إلى قوة قامعة ومدمرة، فذلك – بذاتِهِ – يسيء إلى موقفك الايجابي، يهدمه، يمحوه، يشوهه، وأنا لا أقبَل أن تُفسِد تاريخك المُشرِق وتضحياتك الغالية لأجلِ تحقيق مصلحة ضيقة سلبية !

• بمنطِق الدَولَة : للسلاحٌ مكانُهُ وزمانُهُ وموضِعُه، وضرورته وقيمته ترتبط بذلك، ومتى ما تخطى حدوده، والتهم الحياة المدنيَّة، فقد قيمته، وأصبح مهدداً للدولة والمجتمع . فالجيش الرسمي يقاتِل ويضحي ويحمي، لكنَّهُ يخضع للقيادة الدولتية، ويترك سلاحه في وحداتِهِ، ويعيشُ في المجتمع بمدنيَّته، ولا يحقُّ له ممارسة العسكرية خارِج تلك الحدود، فكيف بجماعات متناثرة، بلا ضابِط دولتي، متنوعة التوجهات والإيديولوجيات والولاءات ؟!

لابد للجميع أن يعي إنَّ السِلاح، كانَ ومازال، هو المهدد الأوَّل للدولَة العراقيَّة، فمِن سلاح العشائر الذي عانت مِنهُ الملكيَّة في بداية التأسيس، إلى الانقلابات العسكريَّة، إلى الدمويَّة والعَسكَرة الصدَّاميَّة، إلى الميليشياويَّة المحاصصية، إلى الانتشار الشعبي الواسِع للسلاح في كل لحظات التاريخ العراقي، وارتباطِهِ بالثقافة الاجتماعية، وقف السلاح في وجهِ بناء العراقيين لدولتهم .

نحنُ الآن في لحظَةٍ فارِقة، لابد أن نتخلَّص من تلك الثقافة والسلطات، لابد أن نعي إنَّ الحياة السليمة لا تُبنى إلا بثقافة السلام والأمان والحريَّة، وبدولَة قويَّة لا تسمَح لمواطِنٍ ولا لجماعَةٍ بامتلاك السِلاح