قناديل: العلم والتقنية والآيديولوجيات الغاربة

Saturday 25th of January 2020 08:13:31 PM ,
العدد : 4596
الصفحة : الأعمدة ,

 لطفية الدليمي

كثيراً ماطرقت أسماعنا عبارة ( إعادة كتابة التأريخ ) التي صارت علامة مميزة لعصر الآيديولوجيات الكبيرة - تلك الآيديولوجيات التي لطالما وُصِفت بكونها السرديات الكبرى الحاكمة في العالم .

كلّ أيديولوجيا تسعى بالضرورة لثني عنق التأريخ البشري وإدخاله في خرم إبرة تكيّف الحقائق - بل أكاد أقول تخلقها - بحسب متطلبات الآيديولوجيا ورؤيتها حتى بات التأريخ البشري أقرب لصناعة يُشترطُ فيها أن تُدعَمَ الرؤى الآيديولوجية بطرق لم تكن تخلو من الكيفية الرخوة والإعتباطية السقيمة ، وليست العبارات المكرورة على شاكلة ( عجلة التأريخ ) ، ( دكتاتورية البروليتاريا ) ، ( التراكم الكمي يخلق تحوّلاً نوعياً ) ، ( اليد الخفية ) ، ( الأسواق الحرّة ) سوى بعض الأمثلة وحسب على تلك الأمثولات الحكائية التي كان يُرادُ لها أن تصير تأريخاً رسمياً راكزاً في المخيال الشعبي بمثل رسوخ المواضعات الكهنوتية . لاشكّ حتماً في أنّ هيمنة هذه السرديات التأريخية المدعومة بدفع آيديولوجي جاء بسبب خفوت العقلية العلمية والتقنية وانكفاء العلم على صورة بناء فوقي بعيد عن مخاطبة العقل الجمعي مثلما تفعل الآيديولوجيات التي تتمترس وراء قوة الدولة والعقلية الحزبية الشمولية على صعيد الدولة والإقتصاد والإعلام بل وحتى فنون الخطابة واستثارة الغرائز البدائية، وثمة أسباب أخرى تأتي في مقدّمتها الحرب الباردة التي كانت قائمة بين المعسكرين الشرقي والغربي - تلك الحرب التي أستخدِمت فيها كلّ الوسائل - بما فيها المصنّعات الآيديولوجية - لإدامة عوامل التفوّق على الخصم بوسائل منها اللجوء إلى إعادة كتابة التأريخ بطريقة تشيطن الآخر وتُعلي شأن الكينونات القومية حتى لو كان الامر لايخلو من تدليس وتلفيق ؛ فالآيديولوجيا في نهاية الأمر صناعة بشرية تحتمل كلّ الرؤى والتسويغات التي تحقّق الفائقية على الخصم المطلوب تدميره في نهاية المطاف . 

يطيب للكثيرين منّا وصف العصر الذي نحيا فيه بأنّه عصر العلم والتقنية ، وهذا قولٌ مقبول وصحيح في دلالته ؛ لكنه يستبطن نوعاً من الخفّة الحسّية التي صارت معلماً من معالم حياتنا ؛ إذ صار هؤلاء يرون في العلم ومنتجاته التقنية ( الهاتف النقال مثالاً ) دليلاً صارماً على مدى تغلغل العلم في أدق تفاصيل حياتنا بعد أن لمسوا حسياً مصنّعاته على أرض الواقع فحسب ؛ لكن ثمة ماهو أعمق من هذه العلاقة الحسية بكثير : يمكن اعتبار العلم - ومصنّعاته التقنية - نوعاً من آيديولوجيا جمعية بديلة عن الآيديولوجيات الغابرة بعد أن غادر العلم موقع المنتج الفوقي وصار يؤثّر في حياة الناس بطريقتين : الأولى حسية مباشرة يستشعرها الناس وهم يتعاملون مع مخرجات العلم والتقنية التي باتت سريعة التبدّل والتحديث ، والثانية عقلية - سايكولوجية مركّبة راحت تعدّل في رؤية الناس لأنفسهم وعلاقتهم المركّبة شديدة التعقيد مع الكون . إنّ القول بكون العلم نمطاً من آيديولوجيا بديلة هو قولٌ ينطوي على شحنة إستعارية يُراد منها الكشف عن الدور المتعاظم للعلم في حياتنا وأسبقيته على كلّ منظومة آيديولوجية مفترضة ؛ فنحن نعرف تماماً طبيعة العلم غير الآيديولوجية التي تناقض المواضعات المتكلسة وتفترض التغيير المستديم الذي لاينقطع . 

فَرَضَ العلم - والتقنية كذلك - واقع حال مستجدّاً صرنا معه مدفوعين دفعاً - لاقدرة لنا على مناكفته أو تعويقه - لإعادة كتابة تأريخنا الطبيعي والبشري بطريقة تستفيد من الرؤية العلمية التي تعتمد على منظور الأنساق المعقدة المتفاعلة مع بعضها في إطار كلّ حيوي واحد .