سيرَةُ مواطِن عراقي صالِح ....

Wednesday 5th of February 2020 07:01:06 PM ,
العدد : 4605
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. لؤي خزعل جبر

• الطفولَة (1980 – 1990 : الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة) : ولِدتُ بعد بداية الحرب العراقية الإيرانيَّة بشهرٍ ونِصف، وكانَ أبي قد غادر الحياة قبلَ الحربِ بخمسة أشهر، فعِشتُ يتيماً في بيت جَدي، وبعد سنتين مِن ولادتي فُقِد خالي الأصغَر في معركة مندلي،

فاتشح البيتُ بالسوادِ والحُزنُ الأسطوري، فنشأتُ مع الحُزن، وأخبار المعارِك، ومآتم الشُهداء، وأناشيد التعبئة، والخوف والترقب والانتظار المؤلِم للأحبَّة . كانت تلك الحرب بداية انهيار العراق، وتحوله من بلدٍ متطورٍ غني مدني، إلى بلدٍ متخلف فقير متدهور، فآلة الحرب العظيمة استنزَفَت موارده، وراكمت ديونه، وحالَة الحربِ خنقت التعددية والنقدية، وحفَّزت النزعات العسكرية المقيتة والبطولية الزائِفة . هُنا كانَت الطفولَة، مع الحُزن والموت، ولا زِلتُ أتذكَّر – بوضوح – إنني كُنتُ في بيت ابن عمي اللواء طاهر إسماعيل جبر، الذي توفي قبل أسبوعٍ، وكنتُ أقفُ في الممر الجانبي الملاصق للحديقة، عندما جاء الدكتور محمد درويش وسمعته يقول إنَّ الحرب قد توقَّفت، فلم أفهَم من ذلك إلا إنَّ جَدَّي سيكف عن القلق على طاهر عند كل هجوم !!!!!!!

• المُراهَقَة والشباب (1990-2003 : احتلال الكويت والحصار الاقتصادي) : ما كِدت أتنفس نسيم السلام، وأعرِف معناه، حتى دخل صدام إلى الكويت، وعادت طبول الحرب، كنت آنذاك في الصف الخامِس الابتدائي، وتلك الحرب لم تكن كسابقتها، فليس العدو هو الفارسي المجوسي الذي درسنا عن عدائه التاريخي للعرب، بل هو العربي الشقيق، ولم تكن مع قوة مكافئة، بل قوة ساحقة، أذلَّت الجيش العراقي بقسوة، ولم تكن في الجبهات الخارجيَّة، بل تعرَّضت بغداد والمدن للقصف العنيف، فعشنا أياماً سوداء، حيث دُكَّت كل بغداد، وتحوَّلت إلى كتلة من النار، وكان جدي – بقصد تنمية شجاعتي – يخرجني لنتمشى تحت القصف، في مدينة خالية، حيث هرب أغلب الناس إلى المحافظات، ورفض جدي مغادرة منزله، ليأتي بعد ذلك الحصار الاقتصادي الكارثي، الذي دمر البنية الدولتية والاجتماعية العراقية، واضطرَّ الناس لبيع حتى كرامتهم، وخرَّب كل السياقات المدنيَّة، فعشنا العوز بكل معانيه، ولا زلت أتذكَّر كيف قضيت متوسطتي واعداديتي بقميصٍ وبنطلون وحزامٍ واحد، أذهب به إلى المدرَسة والعمل والمناسبات الاجتماعيَّة، وعندما تهرأ الحزام غطيته بالقميص، وعندما انقطع لطقته بلاصِق، وكيف كنت أبحث بيأس وأمارِس أي عملٍ لتأمينِ فُتات المعيشة البسيطة، ومواصلة الدراسة، وتمكنت بشق الأنفس من حفظ كرامتي وإتمام دراستي، ولما كُنتُ قد ابتليتُ بلعنة القراءة منذُ الطفولَة، كانَ الفكر يزيد من حدة وعيي بالمأساة الشاملة المحيطة، ويدفعني للاحتجاج والمعارضة في وسطٍ مُرعِب، فكنتُ أتحرَّك مع توقع دائِم للاعتقالِ والتعذيبِ والإعدامِ. في نهايات مراهقتي فقدتُ أمي العظيمة (1997)، وفي نهايات هذه المرحلة فقدت أبي العظيم (2002) . شهدت هذه السنوات التدمير العميق للدولة والمجتمع، إذ ازداد تغول السلطة وبؤس المجتمع، واستعانَت السلطة بالدين والعشيرة كأداتين للهيمنة، إلى جانِب القمع، فكانَت رائحة الموتُ والخوفِ والفقرِ تزكم الأنوفِ، مشاهِد المرض والتسول والأعمالِ المُهينة والوجوه الشاحبة تملأ الشوارِع والشاشات .

• الرُشد (2003-2019 : احتلال العراق والنظامُ المُحاصصي والإرهاب وداعِش) : افتتحت هذهِ المرحلة بالحرب الشاملة لتغيير نظامِ صدام، فاستعدت قصف التسعينيات، وأيامه السوداء، ولا زلت أتذكر كيفَ قضيتُ ليالٍ بين إمساك الشبابيك والأبواب خشية أن تنفجر من شدة العصف على أسرتي، وبينَ التهويَة على طفلتي حنان من شدة حرارة الجو الناجمة عن نيران القصف التي حوَّلت بغداد إلى فرن كبير، وانتهت الحرب باحتلالٍ أمريكي ووعد بناء نظامٍ ديمقراطي، كنتُ آنذاك في الصف الثالث في الجامعة، ورغم استمرارِ الظروف القاسية تمكنت من إكمال البكالوريوس (2004) والماجستير (2007)، وكنتُ أعمَل ثلاثة أعمالٍ في اليومِ الواحِد (8-4 / 6-12 / 12-6) لتأمين المعيشة والإيجار والدراسة، على أمل أن أتعين في الجامِعَة، لكنني قضيت قرابة سنتين من البحثِ عن تعيين في بغدادٍ، بلا جدوى، فرحلت إلى المحافظات، وتعينتُ في السماوَة (2008)، وأكملت الدكتوراه (2014)، وعملت بكل إخلاصٍ لمؤسستي وطلبتي ومجتمعي، تحدَّثت وكتبتُ بكل صدق وعمق، وكانَت مؤسستي أوَّل من حاربني . هذهِ السنوات كانت الأقسى من سابقاتها، فقد شهدت الإجهاز على ما تبقى من الدولة والمدنية في العراق، إذ تغلغل الفساد السياسي والإداري والمالي بصورة سرطانية في كل مفاصِل الحياة، وانبعث الموت والفقر بصور أبشَع، فبعد أن كان الموت على الجبهات في الأولى، وفي المستشفيات والسجون في الثانية، أصبح في الشوارِع والبيوت، فأكلَت الطائفية الآلاف، ليأتي الإرهاب بمفخخاته وأحزمته الناسفة ليقطع الأجساد في الشوارِع، لينتهي عند احتلال داعش لثلث البلد، وبعد أن كان الفقرُ بسبب الحصار القاتِل، أصبح بسبب النهب الخيالي لثروات البلد وأموالِه، وبعد أن كانت السلطة لدكتاتور واحد وأسرته، أصبحت لحفنة من الفاسدين الفاشلين، بميليشياتهم المسلحة، وتمددهم إلى كل المؤسسات، فأصبحت كل المؤسسات ساحات صراع مرير، فقدت معناها وقيمتها، وصارت قياداتها مرتعاً للتابعين الأذلاء، فتفتت البنية الأساسية للدولَة . هُنا شاهدتُ بلدي وهو يحتضر، ومجتمعي وهو يموت ويعاني، ومؤسستي الجامعية وهي تذوي، كانَت نهاية مأساوية لحياة من الكفاحِ والشرف والمعرفة والمُعارَضة، ولذلك كل ما أتمناه في هذهِ اللحظة التشرينيَّة الثوريَّة العظيمة أن تكون بدايَة لحياةٍ إنسانيَّة حقيقيَّة للأجيالِ القادِمَة، حيثُ لا حروبٍ عبثية ولا أيديولوجيات زائفة ولا حِصارات قاتلة ولا نهبٍ ولا قمعٍ ولا ضياعٍ لسنواتٍ من الجهد، ولا انتهاكٍ لقيمة الإنسان والدولة والمجتمع !!!!!!!!