أسبريسو: عن الجيل الذي تلانا!

Monday 10th of February 2020 09:21:15 PM ,
العدد : 4608
الصفحة : الأعمدة , علي وجيه

 علي وجيه

في كلّ أحد، تفاجئني بشكلٍ متكرر، صورة المدّ الطلابي في التحرير، منذ بداية الاحتجاج، وحين أقول "تفاجئني" لأنني لا أعرفُ تماماً كيف يُمكن لهذا الجيل الاستمرار بالقوّة ذاتها، رغم وقوف كلّ شيء تقريباً ضدّهم، وهم لا يحملون شيئاً؟

الأمر وما فيه، يتعلّق في الجيل الذي ولد بعد منتصف التسعينيات العراقية، أو بعد عام 2000، المُختلف اختلافاً عملاقاً عن جيل الثمانينيات الذي أنتمي له.

هذا الجيل هو ابن "اللا نظام"، والنظام هنا هو كلّ أنواع الأنظمة، التي تضعُ الفرد ضمن قطيع الجماعة [مفردة "قطيع" هنا لا تأتي بسياقها السلبي]، والأنظمة المتعددة غادرت مركزيّتها تدريجياً، وسطوتها وسيطرتها على الفرد، ابتداءً من الدين، والدولة، والأسرة، والمدرسة، وغيرها، ورغم سلبيّات زوال هذه المركزية، وخطورتها في سياقات أخرى، لكنها بشكلٍ ما، صنع انفلات هذا الجيل عنها، قوّته التي نراها.

الفرد من هؤلاء، هو أبُ نفسه، وأمّها، ولد دون "فلتر" يحدّدُ له المسموح والممنوع، لا يُمكن إغفال ما فعله الموبايل المحمول وشبكة الأنترنيت، جيلنا تمّ تدجينه لأنه بطفولةٍ محكومةٍ بقناتين، ومراهقة محكومة باستخدام أنترنيت تحت المراقبة تقريباً، فنشأنا بهُجنة واضحة، بين الجيل الذي تلانا، والجيل الذي سبقنا، المُدجّن تماماً.

هناك إشارات كبيرة، في التحرير وغيرها من ساحات الاحتجاج، تؤشر إلى أن ما وصل لهذا الجيل من محتوى عام، يخصّ الدين والسياسة والدولة، وصل بشكلٍ مُغاير عمّا وصل إلينا، في بعض اللحظات الغاضبة حتى "الله" يبدو في مرمى صراخهم وغضبهم.

لا تفهمُ الطبقة السياسية أنّ هذا الجيل لا شيء لديه ليخسره، الفرصة الأولى للتدجين هي "المكسب"، الخوف على شيء ما، لكن هذا الشباب تشكّلت أناه داخل الساحة، وتحوّل من الشاب الهامشي في المجتمع، إلى "الثائر" المُغيّر، البطل الذي تتغزّل به الفتيات، ويخافه الساسة، ويُثني على سيرته المغنّون، وما حدث هو أنّ في وسط عملية التشكّل هذه، قُمعت الاحتجاجات بعُنف، لتُخرج الاحتياطي الداخلي لليأس والعدميّة والتمرّد الذي يحمله هذا الجيل.

احتاج جيلنا، شبه المُدجّن، إلى الدوران على الانتقاد 5 مرات قبل الكتابة ضد خطّ أحمر، دينيّ أو سياسيّ، لكن هذا الجيل لا يعرف بالضبط تضاريس المقدّس والمحظور كما نعرفه، وبالتالي لا يختلفُ عنده رمز ديني عن أي نائب هامشيّ، أو وزير أو ما شابه! 

لحظة الحفاظ على الذات وتشكّلها، جعلت هذا الجيل يكبر بهذه الأشهر القليلة سنوات عديدة، اختبر السلم والحرب والسياسة والصداقة وكلّ شيء آخر داخل هذه الساحات، صار لديه صوت ضد "النظام" أينما كان، وبمعنى أدق: النظام الذي لا يوفر شيئاً لهؤلاء الشباب يخافون عليه! 

لو كانت شهاداتهم فعليّة، معترفٌ بها، لَما تركوا المدرسة، لو شعروا أن هذه الطبقة السياسية تمثّل بلادهم لامتثلوا لصوتها، لو كان هناك تصوّر عن مستقبل، ليس مشرقاً بالضرورة، لكنه بالأقل ليس مظلماً، لخافوا عليه!

أستعيد هنا صورة المراهق، الذي قُتل برصاص حيّ، وفي جيبه كان هناك هاتف رخيص جداً، و500 دينار عراقيّ، وأستعيد هنا حكايات عديدة عن متظاهرين كانوا يستدينون مبالغ الذهاب إلى ساحات الاحتجاج، وآخرين قالوا بشكل واضح: قبل التظاهرات لم نكن موجودين!

لا حلّ أمام هذا الجيل سوى خلق مستقبل لهم، حتى إن عادوا للبيوت، وانتهت الاحتجاجات، ستكون هناك حركة أخطر بكثير من الاحتجاجات التي نراها، ستكون هناك احتجاجات في كل بيت، وكل مدرسة، وكل شارع، الجيل غير المُدجّن، الذي فعل مالم يفعله جيلنا، يحمل قوّة بناء كل شيء، أو تدمير كلّ شيء، في الوقت ذاته!