مَن يفكك الأزمة الراهنة ؟

Wednesday 12th of February 2020 07:04:46 PM ,
العدد : 4610
الصفحة : آراء وأفكار ,

عباس العلي

من الدراسات المهمة في علم الاجتماع السياسي المعاصر هي دراسات مفهوم الأزمة الاجتماعية والسياسية باستخدام منهج التفكيك والتدوير ثم فهم حركة الحل وأتجاهاته ومصدره المنطقي،

فلكل أزمة هناك بداية وصيرورة ومسار ومحركات وكوابح كلها تتداخل في صورة جمعية تسمى شكل الأزمة أو مظهرها العام، ولا يخفى على كل مختص علمي وعملي وحتى في القضايا البسيطة ما لم تفهم الأزمة أو حتى المشكلة البسيطة وأسبابها وعلاتها لا يمكن أن نجد لها كينونة حل، ولا يمكن حتى إدراجها على لائحة الممكن والمقبول العقلي القادر إلى إيجاد المخارج السليمة لها، أو البحث عن نهاياتها بشكل يجعل منها مجرد تجربة قابلة لأن تدرس ويخرج منها بنتيجة تحصن المجتمع من الوقوع مرة أخرى بهذا المطب أو الإشكال الأجتماعي والسياسي.

الأزمة العراقية الراهنة وبفضل التدخلات والتداخلات المتشعبة فيها وتحرك المواقع بين هذا الطرف أو ذاك بحثاً عن المغانم والمكاسب الفردية والفئوية للأحزاب والكتل والشخصيات السياسية النافذة أو المؤثرة على القرار السياسي، تحوّلت إلى ما يشبه المعادلة المغلقة التي لا تنتهي إلا بالعودة في كل مرة للبداية بحثاً عن خط سير جديد محتمل في غالب الاحيان وليس مؤكداً وهذا ما يفسر ظاهرة تكرار ذات الخطأ في كل محاولة للانطلاق نحو تصور للحل أو حتى تصور لمرحلة البحث عن حل، وهكذا تستمر إشكالية التخبط والضياع دون أمل أو نتيجة ملموسة لتأسيس رؤية مخرج ما لهذه الأزمة، ولتفكيك هذه المعادلة وفهمها ، أولاً علينا أن نعود لفهم سياسة أزمة التفكيك التي مورست ضدنا لجعل المعادلة تبدو صعبة أو بدون إمكانية حل.

فهناك قوى سياسية داخلية وخارجية لا تريد الحل بأي صورة وتعمل على ذلك بكل الوسائل والسيل والهدف لديها استراتيجي قائم على تأسيس فكرة اللا وطن أو اللا دولة، وهناك قوى مصرة على أن يكون الحل من تحت عباءتها لأنها تؤمن أن كل الحلول تكمن في وجودها فقط وبالتالي أي فكرة خارج هذا النطاق يمثل تحدياً لها بالذات، وهناك من لا يؤمن بجدوى الحل ولا يؤمن بوجود مشكلة أصلاً لأنه يرى من زاوية أن الوضع مناسب جداً له وهو هذا الحل النهائي الذي لا يمكن تصور حل غيره، ونبقى ندور بين أقطاب الأزمة بحثاً عن قاسم مشترك لعلنا نرسم صورة حل وهذا هو أساس تفكيك الأزمة.

في البدء لا بد من الأعتراف بحقيقة جوهرية أن الأزمة المجتمعية الحالية ليست وليدة مرحلة ما وعليه فلا يمكن تحميل هذه الفترة أو المدة الزمنية مسؤولية محددة، بل القضية بمجملها هي تراكم ومخلفات مراحل مرت على المجتمع والدولة العراقية منذ التأسيس الحديث ولحد الآن، بل لا بد من التعمق أكثر في سبر أغوار هذه النتيجة لنرى أن العامل التاريخي بشقيه السلطوي والأجتماعي كان مأزوما قبل أن تظهر ملامح هذه الأزمة، فالعراق كجغرافية وإقليم سياسي كان دوما معرض لشتى أنواع التأثيرات والمؤثرات الخارجية التي ولدت نوعا من عدم الاستقرار والتناطح السياسي فيه ومن حوله.

لقد ولِد العراق الجديد في بدايات القرن الماضي وهو مثقل بأستحقاقات تاريخية وجغرافية وأطماع دول إقليمية ودولية لا يستهان بها ولا يمكن حتى العمل على تجاوز مؤثراتها الداخلية والخارجية، وهذا ما انعكس على الوضع السياسي والاجتماعي الداخلي، ومما رسم أثاره الحاضرة والمستقبلية على حركة المجتمع والدولة الوليدة خاصة مع أختيار قيادة للدولة من خارج البيئة العراقية، لتبدأ بداية غير مشجعة وتقليدية تتمركز على مصلحة الأطراف المتدخلة والمتداخلة في الشأن العام والخاص للمجتمع العراقي، بريطانيا الدولة المنتدبة وصاحبة حق القرار النهائي على المنظومة السياسية الجديدة هي من وضعت صورة المستقبل العراقي بل تناقضاته التاريخية لتجعل منه دوما ساحة للصراع الديني والمذهبي والعنصري الدائر في الإقليم والمنطقة وهي تعرف تماما حجم الجريمة التي ارتكبتها بحق العراق.

وصحيح أيضاً إنها بنت مؤسسات الدولة وفق النموذج الاستعماري المعتمد في أجندتها وقدمت نموذجاً ديمقراطياً وإن كان محدوداً، لكن كل تلك الخطوات كانت تصطدم بالأساس السياسي والفكري الذي تأسست بمقتضاه الدولة العراقية الحديثة من الناحية الديموغرافية أو من ناحية تقديم طبقة سياسية تحرص أولاً على حماية مصالح بريطانيا وحلفائها على مصلحة الوطن والمواطن، هذا ما جعل من المجتمع العراقي يغرق مرة أخرى بمستنقع ضبابية الهوية الوطنية، فالعراق وفقاً للنموذج البريطاني لا هو دولة تنتمي للمحيط العربي المجاور وكأن هذا المحيط كتلة بشرية متجانسة، ولم تجعل منه منحازاً للهوية الدينية الغالبة للمنطقة لكون هذه الهوية أساساً ممزقة وغير قادرة على أن تعطي صورة حقيقية لماهيتها في ظل الصراعات الطائفية والمذهبية المحتدمة والمتناقضة فيما بينها.

هكذا بدأ المجتمع العراقي دورة حياتية جديدة ولكن بنفس الثوب والمفاهيم والإرث القديم وما يستتبع ذلك من تناقضات وجودية تهدد وحدته ووجوده، لكن تك بريطانيا ولا حكام العراق الجدد غافلين عن ذلك بل من المؤكد كانوا على علم ودراية بالمآلات اللاحقة والنتائج المتوقعة منها، لذلك لم نجد أثراً حقيقياً لهذا التحول النوعي السياسي والأجتماعي على منحنيات مسارات الشخصية العراقية، ولا على صورة الهوية العراقية المأزومة أصلا بالتناقض والتضاد فيما بينها وبين الذات مجردة من أطرها الخارجية.

العراقي يتشبث بالعروبة الثقافية ويتديّن بالمذهبية التي تناقض العروبة وتحاددها من جهة ومن جهة أخرى يسعى للخروج من دائرة التاريخ المر ليعود ويتمسك مرة بالإنجاز العربي التاريخي ومرة بالمنجز الديني، فضاع بين شروط الهوية الخاصة وبين تحديات التطور وشروط التاريخية الحتمية التي لا يريدها بالواقع متى ما مست بمرتكزاته الشخصية خاصة ومرتكزات الهوية الاجتماعية المعاصرة، هذا ليس إدعاء وليس تنظير شخصي بقدر ما هو حالة مؤشرة وثابتة عند كل علماء الأجتماع، وأبرزهم الدكتور علي الوردي في كتاباته عن الشخصية العراقية وتطورها وخياراتها العامة.

الذنب هنا ليس ذنب الشخصية العراقية المجردة والنابعة من تطبعها الطبيعي بل عائد بوجه الخصوص إلى العامل التاريخي والجغرافي المحلي والخارجي عليها والذي سلب منها روح الاستقلال والاستقرار، فهي مأزومة بالعوامل المؤثرة التي رسخت خيارات غير طبيعية عليها مما جعلها تميل للمصالحة مع الواقع وأمراضه رغماً عنها وتحت قوة الإلجاء من أجل البقاء، تصالح استسلامي وليس عن قناعة أو خيار حر حتى ما تتوفر لها الأجواء المناسبة تعود لتتحرك للخلاص من هذه الصبغة الخارجية وتشكل لها هوية حقيقية تكشف عن معدنها الطبيعي.

وبقيت الشخصية العراقية على أمراضها وأزمتها المعلنة طيلة فترة العهد الملكي تبحث عن مدار أخر يحدد لها هوية أخرى قد تكون هوية النقيض أو المختلف التاريخي، لكن بقى العامل الجغرافي وتأثير الموروث التاريخي يتحكم بقوة ويشكل المزاج الأجتماعي في كل مرة بقوته اللا شعورية، مدار يعيد لها جزء من الاحترام الذاتي وهي ترى نفسها محكومة بأمر خارجي وقيادة لا تنتمي للمجتمع العراقي ولا تمثل أي شكل من أشكالها وسلوكياتها بالرغم مما قلنا أنفا أنها تصالحت بإستسلام جبري معه، حتى جاء أخيراً عصر الجمهوريات العسكرية والإنقلابات الدموية التي شحذت روح التعبير السلبي عن مكنونها، فأفرزت سلوكيات قهرية تتراوح بين المازوشية السياسية والسادية الاجتماعية، فهي مقسومة بين أتجاهين رئيسين يتمثل الأول بالنازية القومية من جهة وبالفاشست الديني والمذهبي من جهة أخرى، هنا لا أستثني حتى الأفكار الليبرالية ولا المادية من هذا الوصف بأعتبارها أفكاراً وأيديولوجيات تنتمي لمفهوم الشمولية والكلية فهي بالتالي وجه أخر للفاشست والنازية.