أسبريسو: محارب الرثاثة

Monday 17th of February 2020 08:13:08 PM ,
العدد : 4613
الصفحة : الأعمدة , علي وجيه

 علي وجيه

صديقي حسن مظفّر من أجمل الأصدقاء وأقربهم، قليل الكلام، جميلُهُ إذا تكلّم، قارئ سرد من طراز رفيع، له مجموعة طوابع خطيرة ونادرة، ويتذوّق السينما والموسيقى برِفعة، وهو تدريسيّ في إحدى الجامعات، ورغم كلّ عوامل الاسترخاء التي يجيدها، لكنه معروفٌ بيننا بـ"القلِق"، ويكفي أن يقلق بنسبةٍ بسيطة، ليقلقَ جميع من حوله.

يمارسُ حسن حرباً ضد "الرثاثة"، في صفحته على فيسبوك، ورغم أنه نجح بأخذ هذا اللقب قبل أن يُذيّل بتغريدة زعماء السياسة، لكن رصده لِما يحدث لا يخرّب مزاج حسن فحسب، بل من حوله، فهو يمارسُ مهمة أن يجعلك تنتبه لِما يحيطك من سوء.

لا أمتلكُ تعريفاً دقيقاً لـ"الرثاثة"، فهي مثل الشعر، لا يُعرّف، لكنك تعرفه حين سماعه، خصوصاً في مجتمعٍ شملتْهُ الرثاثة بكل شيء، وبنسبة غير قليلة، فما "يُفترض أن يكون" صار حلما، وإن مارسه أحد، سيكون بمثابة الخارج من زمنه ولحظته.

كلّ شيءٍ رث، من السياسة، والملابس، والطعام، والغناء، والقاموس اللغوي وصولاً للبناء العمراني، وما يزيد باتساع هذه الهوّة بين ما هو كائن، وما يُفترض أن يكون، هو التاريخ الذهبي الذي كان قريباً، حتى السبعينيات والثمانينيات، قبل أن تلتهم القرى المدينة، وتشيع فيها ما رثّ من سلوكيّاتها وما توحّش.

الرثاثة أن يفسدَ الغناء، وأن تتحوّل اللغة من "تتدلل استاذ" إلى "خادم صغيرون"، الرثاثة أن يتحطم الملبس وتتحول الملامح البصرية المتعلقة بالملابس إلى مشهد هجين، كما لو انفجرت كل ستايلات العالم في العراق، لينتج ما ليس منطقياً ولا جمالياً.

لعلّ الرثاثة الأولى هي اللغم الذي زرعه صدام في سلوكيات العراقيين، من ترسيخٍ للصورة النمطيّة للقائد الديكتاتور، ثم الهمجيّ الذي لا يجيد ارتداء الملابس، ولا الأثاث، وحتى الآن يجرح ذاكرتي طقم الجلوس الذهبيّ الذي يستخدمه صدام، الذي يؤشر على قلة ذوق عالية، بسبب كبر حجمه، وسوء ألوانه وتصميمه، ولأن الطبقة السياسية التي تلتْهُ سكنت قصوره، وعارضت أساليبه حتى تشبّهت بها دون أن تعرف، نقلت لنا الرثاثة البعثية، محمّلة بالرثاثة الإسلامية والأوروبية الهامشيّة، لتنتج لنا خلطة تبعث على الغثيان.

الناسُ على دين ملوكها، وسلوكهم، وما حدث من تلقينٍ غير مباشر للسلوكيات السيئة، جعل المدن العراقية، والمجتمع بالعموم، مجتمعاً استهلاكياً، بعيداً عن أناقة السلوك، ومَن يحافظ على قواعد السلوك القديمة، يبدو فرداً مستضعفاً وغريباً في هذا الإطار العام.

الرثاثة التي تحاصرنا، وتتداخل مع الهواء، لا سبيل لعلاجها، فحماة نسق الرثاثة هم اللاهوت الشعبي، والتحزّب الجاهل، وقلّة الوعي والمعرفة والقراءة، التي تصل إلى حد شتم الكتاب، والكتّاب، وسوق الكتب، وكلّ شيء له علاقة بالمعرفة، ففي زمن الرثاثة المعرفة تأتي من الرجل الذي لم ينجح بالتخرج من الثالث المتوسط، والقانون يأتي ممّن خرقه، والأمان يأتي ممّن يحمل سلاحه، ودون أن يضغطه، تجد نفسك قد هربتَ من بغداد لتنقذ أطفالك.

أشاهدُ، دون نزعة نوستالجيّة بكائيّة، صور العراق القديم، لم تكن "عظمة" العراق متجسدة بالبيك الفلاني والباشا العلاّني، وإنما بربّة المنزل الأنيقة، والطفل النظيف، والملابس المخصصة للبيت، والأغنية التي لا تجرحُ الأذن والشعور، وبالمكتبة المنزلية التي لا تقلّ أهمية عن السرير. 

كلّما أوشك أحدنا على التأقلم مع الرثاثة، يأتي مَن يسلّط أنظارنا لها، و"محارب الرثاثة"، حسن، ينبّهك إلى غابة السلوكيات السيئة التي تحيطنا، التي كلّما حاربتَها أو ابتعدت عنها، ازدادت مساحة ابتعادك عن مجتمع، معظمه يجيد التوحش والفوضى والهمجيّة أكثر من النظام، وكأن هذا المجتمع بحاجة إلى أن يعود ليشاهد 5 سنوات من بغداد السبعينيات، ليكتشف كم هو رث، وكم تعاني منه حتى الرثاثة نفسها!