أسبريسو: قتل موزارت الشيعي

Saturday 14th of March 2020 07:36:50 PM ,
العدد : 4631
الصفحة : الأعمدة , علي وجيه

 علي وجيه

لا وجود للجماعة إلاّ بتعزيز أصغر وحدة لبنائها: الفرد. وفي زمن الهويّات الجانبية، وتفتّت قطبية الانتماء، أجدني في أحيان كثيرة معنيّاً بشأن الجماعة الشيعية في العراق والمنطقة، فأنا أنتمي لها، وإن لم أحمل متبنّياتها العقائدية، وهي تمثّلني، وإن كانت لا تشبهني، الأمر قسريّ إلى حدٍ كبير، وأقصى ما يُمكن أن يفعله المرء أن يكون حرّاً ضمن حيّز الانتماء القسريّ هذا.

لا أعلمُ إن كان الأمر يخصّ الشيعة وحدهم داخل العراق، لكنه لا ينعكس بشكل كبير في المجتمع الكردي والسنّي، ثمّة خصائص وممارسات تتكثّف في الجانب الشيعي، وسط وجنوبي العراق، وتكاد تختفي كلّما ارتفعت باتجاه الجبل، ولعلّ أبرز ما يُمكن أن تفعله هذه الجماعة، بعد أن طُويت لها الوسادة سياسياً بعد زوال الديكتاتورية، هو قلب عقدة أوديب، ليرتدوا وقتها ملابس الموسيقار سالييري، ويبدعوا في عقدته، حين بقي سكّيناً في خاصرة موزارت، تلميذه المبدع، وصار في المدارس النفسية إشارةً لقتل الإبن، الذي يسعى لتقويض فضاء الأب، أو الأستاذ.

كلّ مجتمع له جيل صاعد، ويختلفُ تعامله عن تعامل المجتمعات الأخرى، ثمّة جماعات تحتضن شبابها، أو مَن يلتمع فكره أو اسمه تدريجياً، وجماعة أخرى تُمعن بتفتيته وتهشيمه ومطاردته وحتى قتله، لا يهم انتماؤك فأنتَ لستَ فرداً في القطيع، لا تسبّح بحمده، ماذا؟ لديك فكر نقدي؟ سنشعلُ آباءك وأجدادك، وسنرمي عليك كلّ بلاوي الدنيا ومصائبها، فأنتَ لا تعيش إلاّ بوصفك "برغياً" في ماكنة الجماعة، حتى إن كنتَ تفكر بطريقة جيدة، أو تمثّل الجماعة بطريقة إيجابية، أو تكتب بطريقة ممتازة، حتى إن كنتَ مبدعاً، فلا مكان لك إلاّ بتلميع الجماعة.

وتلميعُ الجماعة الطريق الأسهل نحو كل شيء، أوّل الأشياء الأمن الشخصي والاطمئنان على الأسرة، ثم الطريق المعبّد نحو المناصب، ستجد مَن يقف وراء ظهرك، ويسندك، فقط إن سبّحت بحمد السيد، وشكرتَ الشيخ، وعبدتَ الحجّي، ثم سجدتَ لاجتماعاتهم، وصفّقت لكلامهم حتى إن كان أفرغ من مركز تجاري في الصين، وأن تمحو من وجهك كل حياء وأنت تتقلّب وراء مواقفهم كل لحظة، لأن لا معنى لك بدون هذا وذاك، أنتَ ضمن الجماعة، والجماعة لها رؤوس ويجب أن تعبدهم! 

بالمقابل، يحتاج المرء إلى انعدام شخصية وجهل واتباع من أجل الاستمرار بالسلوكيات هذه، ولأن هذا الأمر غير منطقي، في زمن تقوم المعرفة بتفتيت كل المركزيات المُسلَّم بها، نجد الجماعة وقد التفتت لتأكل أبناءها، وتنهي وجودهم، رمزيّاً بالأقل، فإن تظاهر هذا الفرد، نضربه بالرصاص، والغاز، والهراوات، سمعته ستكون بالحضيض، فهو مثليّ وعميل، وخمّار ومتعاطي مخدرات، أمريكي اسرائيليّ، لن يشفع له شيء ولو تعلّق بأستار السفارة الإيرانية! 

الجماعة الشيعية اختصاصها الأساسيّ التفتّت، والطرد والتجزئة، ولها إمكانية بالإمعان في عملية التنكيل بـ"الابن الضال" الذي يمتلك فكراً نقدياً، أو ملاحظات على هذا الشأن أو ذاك، وأعرف شخصياً ضحايا لهذا التنكيل، حوربوا بأرزاقهم وأسمائهم وسمعتهم، فقط لأنهم قالوا لامبراطور صغير في لحظة ما: لا يوجد ثوب عليك!

في حين تتطور كوادر الجماعات الأخرى، يمعن سالييري الأحزاب الإسلامية والفصائل بمطاردة موزارت التظاهرات والقراءة والتحرر الجزئي من الجماعة، ولا يتورّع عن فعل أي شيء من التحريض على دمه ومطاردته، فهو يكتفي بمَن يلغي ذاته وفردانيته ودماغه، ولا يعلم إن روح الجماعة هي الفرد الحر، وروح أي حركة سياسية واجتماعية هو فرد ينمو عقله، ويقرأ، ويكتب، ويعترض، لا الفرد الذي لا فائدة له إلاّ لملء الفراغ بصورة لتظاهرة حزبية، أو أنه يبكي اشتياقاً لأنه لم ير هذا الزعيم أو ذاك، أو أنه يظهر استعداده ليموت بين يديْ تاج رأسه الذي اعتلى دنياه حتى آخرها، وترك التابعين المساكين بلا شارع واحد نظيف في مدينتهم!