صلاح جياد ظاهرة نادرة

Monday 16th of March 2020 06:39:53 PM ,
العدد : 4633
الصفحة : عام ,

فيصل لعيبي صاحي

الكتابة عن قامة فذة ومبدع نادرمثل الفنان صلاح جياد المسعودي، ليست بالمهمة السهلة، خاصة عندما تكون من قبل شخص رافق هذه الشخصية منذ البدايات الأولى،

فهي ستتضمن حتماً مواقف غير حيادية وملاحظات فيها الكثير من التصورات الشخصية والمشاعر الذاتية. ولهذا فأني أستميح القارئ والمتابع لنتاجات الفنان الكبير صلاح جياد، العذر فيما لو إبتعدتُ أكثر من اللازم عن الموضوعية أوالتجرد في هذه المادة التي بين يديه.

تعرفت على صلاح ابن الشيخ جياد كروز المسعودي عام 1954 ، أي منذ 65 عاماً خَلَتْ، عندما إنتقلنا من محلة بريهه في العشارالى محلة الفيصلية – هكذا كان اسمها قبل ثورة 14 تمورز المجيدة عام 1958. وإلتقينا منذ الصف الثاني إبتدائي، لكنه كان في شعبة ( أ ) وانا في شعبة ( ب ). حيث كانت المدارس وقتها تقسم الصفوف حسب الحروف الأبجدية وعدد طلبة نفس المرحلة . وكان معنا أيضاً طلاّب عُرِفو بميلهم للرسم والتطلعات الإبداعية المخالفة لتطلعات معظم التلاميذ الذين في سنهم والذين عادة ما تجذبهم كرة القدم أو صيد السمك و الطيور أوالألعاب الرياضية و الشعبية الأخرى.

كان صلاح جياد ولواء عبد الأمير المحاويلي وعلاء الدين عبد السبحان وكاظم الحجاج وعبد الحسن فيصل وجاسم العايف وآخرون، يهتمون بالفن والأدب وقراءة الكتب والروايات ومشاهدة الأفلام وكل ما يتعلق بالمخيلة والإبداع. وكانت محلة الجمهورية ( الفيصلية سابقاً ) ولحسن الحظ تمتلك سينمتها الخاصة وهي سينما صيفية، ولما كنا لا نملك عموماً نقوداً تكفي لشراء تذاكر السينما بشكل مستمر، فقد تكفل صلاح جياد بتزويدنا ببطاقات خروج مزوّرة للدخول والخروج خاصة بعد الفرصة التي تقع بين الدعايات وبدء الفيلم. وقد قضينا أوقاتاً ممتعة وشاهدنا أفلاماً جميلة بفضل هذه المهارة التي يملكها صلاح.

في البصرة وأظن في كل ألوية العراق (كانت المحافظة تسمى لواء في العهد الملكي) يوجد تقليد رائع، هو الإحتفال بالنشاط المدرسي سنوياً، حيث يساهم كل طلبة اللواء ومدارسه في هذا المهرجان الثقافي الرائع. مسرح غناء وموسيقى، ورسم ونحت وحرف متنوعة شعبية وشعر وخطابة وغيرها. كنّا نساهم كطلبة نمارس الرسم وبتشجيع كبير من معلمينا في هذا الإحتفال السنوي الكبير المتعدد الوجوه. وكان صلاح في المركز منه ومن المبرزين فيه. وقد عرفت هذه النشاطات العديد من الفنانين، كان أبرزهم الفنان الرائع هادي الصكر ،له العمر المديد والصحة والعافية، الذي تم إعتقاله بعد ثورة تموز وأودع السجن بتهمة الشيوعية، فكان يرسل أعماله من هناك وقد تمحورت حول مواضيع السجون والمعتقلات والمواجهات بين عوائل السجناء وغيرها من المواضيع الإجتماعية المؤثرة - أظنه والفنان الكبير محمود صبري كانا من أبرز فناني تلك المواضيع آنذاك - وكذلك الفنان الرائع الراحل حسن شويل له الذكر العطر، الذي تبهرني مواضيعه عن الطفولة وألعابها والمواضيع الشعبية التي كان من أفضل من عبر عنها بمهارة أكاديمية ملفتة . كنت أقف مدهوشاً ومتأملاً أعمالهم العجيبة، وكان أساتذتنا يعرضون معنا أعمالهم أيضاً، فتبدأ النقاشات والجدالات فيما بيننا حول أعمالهم وأعمالنا فهم من خريجي معهد الفنون الجميلة ببغداد ومن تلاميذ العملاقين فائق وجواد وكنا ننظر لهم ولا نزال نظرة الاحترام والتقدير والمحبة، لأنهم كانوا مثال الفنان والمربي والأستاذ. أذكر منهم الراحلون عبد الباقي النائب ، عبد الجبار العطية، إبراهيم الكمالي المدهش، محمد راضي عبد الله الفنان المثقف ، فرج سمعان، أدهم إبراهيم، موريس حداد ونجاة حداد وغيرهم لهم الذكر العطر، ومن الأحياء الأساتذة فاروق حسن، سلمان البصري، عجيل مزهر، محمد عبد وطه الشاوي وغيرهم لهم العمر الطويل والصحة والعافية.

كان طرزان وفلاش كوردن وسوبرمان وشمشون الجيار هم أبطال رسوماتنا وقتها. أذكر عندما كنا في محلة بريهه قبل إنتقالنا الى محلة الفيصلية عام 1953، أني شاهدت في بيت صديقي الكوردي أليف حمه صورة مرسومة من قبل شقيقه الأكبر للسوبرمان وهو طائر في السماء وكذلك صورة شمشون الجبار وهو يشق فم الأسد بعد أن ركب فوق ظهره. وقد خرجت من بيت صديق الطفولة هذا مذهولاً ومصمماً على ان أتخذ من الرسم مهنتي الأساسية. خاصة وإن أخي علي الذي يكبرني بأربعة سنوات كان يرسم رسوماً جميلة في دفتر الرسم الذي كان أستاذه الفنان الرائد الراحل عبد الهادي البنك يكلفه بها. 

بعد ثورة تموز، ظهرت أفلام هرقل وماشستي وقصص اليونان والرومان وكنا وقتها في محلة الجمهورية، وقد إستقر رأي معظمنا على إصدار مجلة أطفال مرسومة من الغلاف الأول للغلاف الأخير، فبدأنا في التحضير لها وكانت ترسم على دفتر كان مخصصاً على ما أتذكر لرسوم خرائط الجغرافية وهي أوراق كبيرة جميلة مؤطرة وبغلاف من الورق السميك، كان من نصيب العزيز صلاح شخصية هرقل الجبار، وأزعم أنه أول فنان في العالم تناول هذه الشخصية في مجلات رسوم الأطفال. وكان العزيز كاظم الحجاج مؤلف ورسام حكاية الكابتن كوك. الذي حوّلها بعد ذلك الى كتيب مدهش خاص، وفي تلك الفترة بالذات ظهرت لي رسوم مطبوعة في المجلة الشهرية لمدرسة العزّة الإبتدائية للبنات في محلة الجمهورية ، بتشجيع من مديرة المدرسة الجليلة . وكان ذلك حدث مهم بالنسبة لي. وأثناء هذه الفترة، اشتهرت رسومنا على النشرات الجدارية لمدرسة العزة الأبتدائية وكان الطلبة يتجمعون حولها وقد بدأنا صلاح وأنا نتدرج في هذه المهنة ، فبدأت مرحلة جديدة بعد الثورة مباشرة، فتحولنا من رسم المناظر والسفن وإن لم ننقطع عنها تماماً الى المواضيع ذات العلاقة بحياة الناس وخاصة الفقراء منهم وكذلك رسم بعض المشاهد الثورية التي نستوحيها من اللوحات المرسومة عن الثورات الروسية والفرنسية والأمريكية، التي نراها في المجلات ، ثم أصبح الطلب على رسم صورة الزعيم عبد الكريم قاسم على أشده فكل بيت وكل مقهى ومحل يرغب في تعليق صورة له، بعد أن تكالب الجميع على الثورة وتمت محاولة إغتياله. كنا صلاح وأنا في شغل شاغل فالصورة بربع دينار – ونحن نكملها سريعاً لأننا قد حفظنا صورة الزعيم على ظهر قلبينا. وكان مثالنا في ذلك الفنان الكبير محمد عبد الذي رسم صورة رائعة للزعيم وبتقنية ومهارة فائقة تجسد مقدرته الكبيرة و علّقها في محل الجواهري لبيع الزجاج عند مدخل» سوق المغايز « من جهة ساحة أم البروم وهي صور أسود وأبيض بالحجم الطبيعي وبمادة الفحم ولا تزال عالقة بذاكرتي.

في هذه الأثناء جاءنا الفنان الرائع إبراهيم الكمالي وكنا قد إنتقلنا الى المتوسطة وقتها، فأذهلنا بالوانه ومواضيعه ورسوم الشخصيات ( البورتريت ) التي لا مثيل لها ، إذا إستثنينا الفنان الكبير فائق حسن. كان الأستاذ إبراهيم الكمالي شعلة من الحماس والإبداع وكل ما يلمسه يتحول الى فن وهو يملك كف طرية وعجيبة، إضافة الى صوته الصدّاح عندما يبدأ بترديد أغاني عبد الوهاب. لقد سحرنا وأعطانا كل ما يملك من موهبة وحماس ومحبة.

الشيء الجميل في علاقتنا صلاح وأنا وبقية الأصدقاء هو التقدير والإحترام المتبادل والإعتراف ببعضنا كموهوبين في مادة الرسم أو الأدب او المسرح. وصلاح كما عهدته كان منكبّاً بكل قواه ومهتما بكل جوارحه بفن الرسم. وكان الفن الروسي ما قبل ثورة أكتوبر وخاصة الفنان الرائع ( إليا ريبن ) أهم مصادر إهتمامنا وكان لصلاح ولع خاص بـ ( ميخائيل فروبل ) الفنان الرمزي الروسي الشهير صاحب لوحة ( ملاك الشر الجالس ) التي لعبت دوراً حاسماً في تطور تقنيته التي عُرِفَ بها. 

يوم من الأيام جاءني صلاح يحمل صورته الشخصية مرسومة بالزيت وكان معه الصديق العزيز عبد الأمير دعير الوائلي. بهرتني اللوحة فقلت له : عاشت يد أستاذنا إبراهيم الكمالي على هذه اللوحة، ظاناً إنها من عمله، فضحك صلاح وعبد الأمير معاً ، ورد عليَّ عبد الأمير بالقول :» إنها من عمل صلاح، وقد رسمها من خلال رؤية وجهه في المرآة «. وقتها لم انتبه لفكرة الرسم من خلال المرآة، دهشت لقوة ومهارة التنفيذ والشبه والإنشاء. وقد رسم صلاح نفسه بملابس فرسان القرن الثامن عشر الفرنسيين. من تلك اللحظة أدركت حجم وثقل و مسؤولية أن تكون فناناً.