متظاهرون يرون وقائع التعذيب والموت في الاقبية المظلمة

Wednesday 25th of March 2020 03:39:19 PM ,
العدد : 4633
الصفحة : محليات ,

متابعة المدى

لم يغب سيناريو الاختطاف والتعذيب عن الساحة العراقية طويلاً، حتى عادت القصص المخيفة تروى تارة أخرى، ولكن هذه المرة ليست على لسان المختطفين بسبب الطائفية، وإنما من ناشطين شاركوا في الاحتجاجات التي انطلقت مطلع أكتوبر الماضي.  

“كنت أحسب عدد الضربات التي تفتكُ بجسدي، لكنني توقفت حين ضربني بأخمس البندقية على صدري، شعرت بأن كل شيء توقف، حتى الهواء… انقلبتُ أنا والكرسي، الذي ربطوني عليه طيلة فترة اختطافي، إلى الوراء… لم يكتفِ بذلك، جاء ووقف بكل ثقله فوق صدري فيما كان طرف حذائه يدمي وجهي”.
يقول (المختطف 1) والناشط الشاب في احتجاجات العراق، وهو يحدّق بزاوية مظلمة في الصالة المستطيلة التي التقيناه فيها مستذكراً قصة تعذيبه أثناء فترة اختطافه التي امتدت من 27 إلى 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
يضيف وهو يحاول إخفاء حسراته التي تتسلل مع الكلمات: “لم أكن أصدق أن تعذيباً جسدياً كالذي تعرضت له يمكن أن يحصل في بلد كالعراق ومع أناس، جريمتهم أنهم احتجوا على الفساد”.
طوال أيام “الكابوس” الخمسة التي عاشها كما يقول، من دون أن يعرف مصيره ولا المكان الذي اقتادوه إليه أو الجهة الخاطفة، لم يقابل مختطفاً، لكنه لم يكن المتظاهر المختطف الوحيد، فقد كان خاطفوه يتحدثون عن مختطفين آخرين ويبحثون عن “اصطياد” زملاء له.
حالات الاختطاف المؤكدة وفق مصادر متعددة تواصل معها فريق إعداد التحقيق، تعد بالعشرات، وهو ما يؤكده عضو مفوضية حقوق الإنسان فاضل الغراوي، قائلاً إن “المفوضية وثقت 79 حالة اختطاف أو إخفاء قسري بحق نشطاء ومتظاهرين بينهم 4 فتيات منذ مطلع تشرين الأول 2019 حين انطلقت الاحتجاجات وحتى منتصف شباط/ فبراير 2020، أُطلِق سراح 22 منهم فقط”.
لكن نشطاء في الحراك الشعبي يتحدثون عن أرقام أكبر، وعن أسماء لم تصل إلى المفوضية لأن الكثير من عائلات المختطفين فضلوا الصمت والتوسط لاطلاقهم خوفاً من تعرضهم لما هو أسوأ.
وفق متابعات فريق التحقيق، تختلف أعمار المختطفين وانتماءاتهم وميولهم، كما أساليب اختطافهم واستدراجهم، لكنهم يشتركون في “جريمة الاحتجاج على الجهات الحاكمة” والتي كانت أثناء عمليات الاستجواب والتعذيب تحمل عناوين “تلقي أموال خارجية، التواصل مع جهات معادية، تخريب الممتلكات العامة”.
كان (المختطف 1) في ساحة التحرير التي تعد معقل الاحتجاجات في العاصمة بغداد، نحو السادسة من مساء 27 تشرين الأول، حين تعرضت الساحة لموجة من قنابل الغاز القاتلة التي حجبت السماء، أصابت إحداها كتفَه اليمنى، ما اضطره للتراجع باتجاه شارع السعدون لتلقي العلاج وأخذ قسط من الراحة.
يقول: “من حُسن حظي أن القنبلة سقطت باردة وتسببت لي بكدمة قوية فقط، ارتحت قليلاً ثم عدت إلى الساحة لأُشارك المسعفين عملهم قرب مدرسة العقيلة القريبة من جسر الجمهورية، بقيت هناك نحو ساعة أنقل المصابين بالغازات غلى سيارة إسعاف تتمركز على بعد أكثر من 200 متر لكن سرعان ما تبدّلت الأدوار واختنقْتُ”، يضيف وهو ينهض من كرسيه الذي كان يغرق فيه طوال فترة اللقاء، ويقف على قدميه “كنت أسعل، وأحاول مقاومة الإغماء ثم تعثرت، فجاءت عربة تكتك وحملتني، هذا آخر ما أتذكره”.
لا يعلم (المختطف 1) إذا ما كان مَن في عربة التكتك شركاء في عملية اختطافه أم لا “صحوت على أرضية سيارة إسعاف، كان هناك شخصان لم أستطع تمييز ملامحهما، سرعان ما بادر أحدهما إلى ضربي وتثبيتي ليزرق الآخر إبرة في وريد يدي، ففقدت الوعي مجدداً”.
القمع والخطف: وقود الاحتجاج
لم تكن جرائم الخطف شائعةً في الأيام الاولى للتظاهرات، كان احتمال الموت وارداً في كل لحظة في التحرير وساحات الاحتجاج الأخرى في المحافظات نتيجة الاستخدام المفرط لقنابل الغاز المسيل للدموع القاتلة والتي اختلفت الروايات الحكومية بشأن نوعيتها ومصدرها ومن يستخدمها، وقتها كان الرصاص العشوائي لا ينقطع وسبق كل ذلك، في مطلع تشرين، القناصون الذين يختارون بالصدفة ضحاياهم.
وثقت مفوضية حقوق الإنسان، مقتل 556 شخصاً خلال أربعة أشهر، بينهم 158 شخصاَ قتلوا في الأيام الأولى من شهر تشرين الأول، و399 بين 25 تشرين الأول 2019 ومطلع شباط 2020، وفق عضو المفوضية علي البياتي، إضافةً إلى إصابة نحو 24 ألفاً آخرين.
مع القتل بوسائل مختلفة، كان الاختطاف يحضرُ كأداة لبث الرعب، استُخدِمتْ في العديد من ساحات الإعتصام ببغداد ومدن جنوب العراق.
ذلك العنف، تحول وفي أكثر من مرة إلى وقود للاحتجاج، فكان سبباً في تزايد أعداد المحتجين وإدامة زخم التظاهرات المطالبة بالإصلاح وانهاء الفساد وتحسين الخدمات والتي ارتفع سقفها إلى تغيير الطبقة الحاكمة والنظام السياسي في البلاد. وهو ما حدث في مساء السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 حين قامت مجموعة مسلحة باقتحام مرآب السنك وساحة الخلاني القريبتين من التحرير وأطلقت النار على المتظاهرين موقعةً 25 قتيلاً في ما عرف لاحقا بـ”مجزرة السنك”، والتي دفعت في الصباح جموعا هائلة من المواطنين للتوجّه الى الساحة لمساندة المعتصمين هناك.
 
لِمَ القمع؟
يرى المحلل السياسي كاظم المقدادي أن التظاهرات “تهدد امتيازات الأحزاب السياسية الفاسدة التي تعتقد أن الاحتجاجات والتظاهرات وإرادة الشباب في التغيير قد تكون سبباً بفقدانهم أموالهم وامتيازاتهم”.
ويضيف متحدثاً لفريق إعداد التحقيق: “بالتأكيد يقومون بالخطف والقنص والقتل، فهذا أسلوب الميليشيات وخير مثال على ذلك اختطاف الناشط جلال الشحماني في 2016 واختفاؤه منذ ذلك الوقت وحتى الآن”.
كان الشحماني اختفى واثنان آخران من أبرز نشطاء التظاهرات هما واعي المنصوري الذي غيب في 2015 وفرج البدري الذي اختفى في 2018، ولم تتبنَّ أي جهة عمليةَ خطفهم. وعُرف الثلاثة بمساهمتهم وقيادتهم للاحتجاجات التي تتفجر بين فترة وأخرى منذ سنوات، ويتفق ذووهم، أثناء حديثهم لفريق التحقيق، على أن “اختطافهم جاء انتقاماً من نشاطاتهم الاحتجاجية” فلا أسباب أخرى لذلك. يقول شقيق أحد الضحايا: “أصعب شيء ذلك الانتظار الأبدي، وعدم وجود قبر له نمضي إليه باكين”.
لا إحصاءات بشأن عدد المختطفين في السنوات الأخيرة وعدد الناجين منهم. وعادة ما تنتهي التحقيقات في عمليات بلا دون نتائج حتى لمن تفرج عنهم مجموعات الخاطفين. ومع حالات الاختفاء وصمت المُفرج عنهم وغياب نتائج التحقيقات لا تُعرف تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة المغيبين وإذا ما تعرضوا للتعذيب أم تمت تصفيتهم سريعاً.
لكن يتحدث ناجون عن تعرضهم للتعذيب والترهيب بأساليب مبتكرة في الإيذاء الجسدي والنفسي، بحسب شهادات وثقها فريق التحقيق. يقول المختطف 1 إن أكثر ما كان يرعبه ليس الضرب بل المادة المجهولة التي كان الخاطفون يزرقونها في أوردته كلّ يوم وتتسبب في كلّ مرّة بفقدانِه الوعي.
ويضيف: “فقدتُ الشعور بالزمن لأنني عندما أصحو من إغمائي لا أعرف كم استغرقت من الوقت، والذي ضاعف معاناتي هو إغلاق عينيَّ طيلة مدة احتجازي”.