الواعظ ورحلة البحث عن المعنى

Thursday 26th of March 2020 01:25:03 PM ,
العدد : 4633
الصفحة : عام ,

 دراسة نفسيّة اجتماعيّة لرواية الواعظ [1]     

الدكتورة هلا الحلبي

إذا كانت حركة التاريخ وفق ابن خلدون هي" حركة انتقالٍ مستمرٍّ من البداوة إلى الحضارة"[1] فإنّ حركيّة "عبدو الزنبق" البطل في رواية الواعظ تتمثّل في انتقالٍ من ريفٍ إلى مدينةٍ،

ومن بساطةٍ إلى تعقيدٍ وتأزيمٍ. وقد بدأت هذه المسيرة إثر تدافعٍ مع أخيه بعد صراعٍ على تفّاحة: تلك التفاحة التي أنزلت آدم وحوّاء من علياء جنّتهما، كانت نقطة انطلاقٍه ليستوطن البطل الطفل ريف عكّار ويكون خادمًا مخلصًا عند فريدة الزنبق ثمّ يتسمّى بها، وينشأ مترصّدًا بكلفٍ تحرّكاتها وسكناتها، ويرقب بشغفٍ نشاطها مع الأصلع بعدما أحكم وضع ثقبٍ يتجسّس عليهما في أوقاتهما الحميمة. فأيّ اعوجاجٍ نشأ عليه طفلٌ امتهن تدليك النساء؟ وهل استطاعت الكاتبة شدّنا إلى هذا البطل المنحرف والغارق في عنف الوهم، والتماهي معه؟

1- شخصية الواعظ

 وتتحرّك شخصيّة الواعظ ضمن أفلاكٍ ثلاثة: فلك المرأة اليد التي تنتشله من بؤسه، وفلك تأنيب الضمير نتيجة إحساس بالخطيئة، والفلك الأخير فلك بحثه عن أمان أسرة فقدها بسبب انسلاخه عنها وهو طفل.

أ- فلك المرأة

بدا عبدو ضعيفًا متعلّقًا بجسد المرأة: قدميها وأديمها وتضاريسها، وبدت رمزًا لوجوده، (ص ٣٧ ) نراه يطأطئ الرأس لها وينام تحت سريرها، أو قل هو راهبٌ في حضرتها وهي أشبه بآلهة، معها يصبح ذا عينٍ سحريّةٍ وخيال ظلٍّ يستلذّ بالاستماع إلى حكاياها حتّى كاد يتماهى بها ويصبح فارسًا من فرسان هذه الحكايا، أدمن لمس الأجساد والنظر في الثقوب ولم يقع في شباكها رغبةً عن الوقوع في حبّ الاستئثار البغيض، (ص ٧١)، بفضلها تعلّم وعلى يديها تربّى، ومن دروس لياليها نهل.. ومع أنّ نساءه كنّ "خبز الأغنياء"(ص١٢٧)إلا أنّ وجهًا آخر ظهر له من خلالهنّ، وانفتحت بفضلهنّ مغارة علي بابا وذلك مع "الأصلع" رجل فريدة، الذي غامر به "كحصانٍ في سباق"(٨٦) واقتاده من غير أن يدري إلى تجارة الممنوعات على أنواعها من أسلحة إلى حبوب هلوسة، ليترسّخ فيما بعد زعيمًا لمهرّبين يقطعون المعابر الحدوديّة برًّا، ثمّ بحرًا، غاطسًا في البحر يلملم البضاعة المهرّبة المرميّة قبيل المرفأ، ليلًا لتوضع في مراكب ثمّ توزّع خلسةً وتكون وقودًا لحربٍ عصفت بلبنان خاصّةً، وأمدّت المسلّحين بما يحتاجونه من شططٍ في العقول وقوّةٍ في الأذيّة والتدمير" فلا يشعرون بالموت أو بوخز الضمير"(ص١٣٥)، ليطيحوا بمن شاءوا ويعيثوا في الأرض فسادًا، أو قل بما أملي عليهم ليظلّ هذا الوطن جريحًا ينزف روحًا وأرضًا.

ب- فلك تأنيب الضمير

وسط هذه المعمعة، لم يكن الواعظ كما يبدو صديقًا مقرّبًا من نفسه، فقد رافقه تأنيب ضميرٍ أقعده عن الإقدام على الزواج وتكوين أسرة حتّى إنّه يتساءل بمرارة:" هل يجب أن أكون أبًا"؟ (١٩١) وهو وسط جبريّةٍ عمياء، أسقطته غرقًا في موجات تأنيب ضميرٍ لا تنتهي، منذ ذهل عن نجدة أخيه بعدما سقط في البئر وعبثًا يحاول إسكات تمتمات نفسه(ص١٩١). ولكن ها هو البحر ينتشله من بؤسه العميق، مثلما انتشلت المصادفة يوسف من غيهب البئر، ولكنّ الفرق يكمن في أنّه هو من ألقى بنفسه في خضمّ المتاعب، ورمى بها في نار الممنوعات، لتحرقه وتكاد تودي به.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى جريمة ارتكبها قبل أن يستقلّ بتجارة الممنوعات حينما قتل مرشده في نقلها وهو فؤاد وأكمل جريمته بقتل سهام الغانية التي شهدت جريمته مصادفةً، فما كان منه إلا أن قتلها بدورها ليخفي جثتيهما معًا في البئر.

 فكيف نستطيع تبرير ذلك؟  فهو تارةً يستمتع بتدليك أجسادهنّ والوصول إلى مناطق ممنوعة، وطورًا يستغلهنّ في تحقيق مآربه وتيسير تجارته الخطرة، وطورًا يفتك بمن يحاول أن يترصّده أو يعرقل خطوه أو زعزعة مداميكه المترسّخة في عالم الممنوعات.

ج- فلك البحث عن أمان

لقد ساقه القدر لأن يكتسب هويّة انعزاليّة، تهوى الوحدة والانعزال عن العالم، بل وعداونيّة أحيانًا، ثم ينكفئ في حركةٍ تعويضيّةٍ نحو تدليك النساء والتودّد إليهنّ، تدفعه المصلحة في تحريكهنّ لتوطيد علاقته بهنّ ليكنّ له شبكة أمان يسقط فيها بهدوءٍ وأمانٍ، ودرعًا يحميه في حركاته وأعماله اللامشروعة.

وتستمرّ معاناة رحلة البحث عن معنى لحياته طوال فصول الرواية، ويبقى عبدو الزنبق يغلي في وعاء الماضي: لا عائلة، لا حبّ لا استقرار، وبدل أن تكون طفولته ملاذًا آمنًا له ولذكرياته، كانت مصدر تنغيصٍ وعنصر استفزازٍ يرغب عنه، ويفرّ مهرولًا منه، ونقطةً سوداء رصدت حضوره وكبّلت خياله، ونارًا أحرقت أعماقه. فوجد نفسه وسط تصبّغاتٍ متنافرةٍ في مساحاتٍ متناقضةٍ، رافقته أينما حلّ.

وفي محاولةٍ منه للخروج من هذه المراوحة المرهقة كان انكبابه على اختراق عوالم جديده لعلّه يحقّق فيها انتصاراتٍ مادّيّة حتّى تكدّست لديه الأموال وحار في مسألة تبييضها، فكان ظهور شخصيّة نسائيّة غربيّة، هي رسّامة ألمانيّة تزوّجته بعدما كانت تؤمّن له تبييض بعض أمواله، وفرّت إلى ألمانيا، ثم تنتشله من جديد حينما نجا بأعجوبة من انفجار طاول سفينة كان فيها وذلك نتيجة قصفٍ إسرائيلي، فكأنّ "ماتيلدا" جنّيّةٌ لا شرقيّةٌ ولا غربيّةٌ، تعرف كيف تمسك به وتنقذه وتنتشله من محنته التي فقد خلالها ساقه وعينه وأصبح شبه معاق (ص٢٩٨) وتحتجزه في مسكنٍ هو مأوى للعجزة، ثمّ ترمي به في غابتها الألمانيّة السوداء.

وهنا لا بدّ من التساؤل: كم يستحوذ مال الممنوعات على رأس المال الاجتماعيّ؟ وهل العمل بالممنوعات مبرّرٌ؟ وهل يتمتّع بجاذبيّة الإثراء السريع على الرغم من أنّه ينتهك محرّمات ويطيح بأناسٍ كثرٍ؟ وهل في حضرته تمحى نظريّات المال الحلال والحرام ويصبح كلّ ممنوعٍ مسموحًا ومستساغًا؟

لقد هندست الكاتبة روح واعظها وقد باعها للشيطان، فبدا أسير الماضي وتائهًا، تقيّده ذكريات الطفولة وتقمعه، فكان ذا هويّة ملغومة لا تفتأ تتفجّر شظايا تفجّرًا منعه من الشعور بالانتماء، حتّى إنّه حاول أن يتلمّس ملجأه في استراق حرمة زوجين طورًا أو في اللهاث وراء الرزق الحرام، أو الانكفاء في حوارات غير مجدية مع مارلا، ملاذًا آمنًا ومسليًا، ليهرب بها من بطش ذكرياته.

  • فنّية الرواية

ما الذي قدّمته هذه الرواية؟ وهل اكتفت بسبر حياة الواعظ في رحلة البحث عن المعنى؟

في رواية الواعظ أضاءت الكاتبة ضحى الملّ على حياة الريف اللبنانيّ في مأكله ومشربه وبعض عاداته وقيمه، وهي التي عايشته عشرات السنين فتعرّفته ونقلته بأمانةٍ مركّزةً على العلاقات النسائيّة الريفيّة ومسألة تهريب الممنوعات على البغال والحمير، ولم يقتصر تصويرها على القرية وحياتها بل كان لطرابلس نصيبٌ في تصوير الأناقة الطرابلسيّة عبر البرنسيسة (٩٩) وللمرفإ الطرابلسيّ الذي يستقبل البضائع على أنواعها، كاشفةً عن آليّة التهريب، للأسلحة وحبوب الهلوسة وحركيّة البضائع الممنوعة، وكيف ترمى قبالة الشاطئ ثم تنتشل من قبل غطّاسين لتوضع في مراكب صغيرة ويجري توزيعها بسرّيّة تامّة على الزبائن.  في حين كانت المحطّة الألمانيّة مناسبة لتصوير خجول لقارة أوروبا العجوز، وتصوير الإنسان الغربيّ متمثّلًا ب"ماتيلدا" الداهية والجنّيّة الساحرة التي تمسك بالواعظ- الشرقيّ، وتحرّكه كعجينةٍ في يدها، كما يحلو لها.

وسواءٌ أعبّرت الرواية عن حقائق أم أنّها حملت الكثير من خيال الأديب، إلّا أنّها استطاعت إماطة اللثام بجرأةٍ عن خيوطٍ خفيّةٍ تمسّ الحياة الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة في لبنان  منذ خمسين سنةً خلت، وأن تكشف بعض ما ذهل عنه المواطن العاديّ في سباقه اللاهث نحو لقمة العيش، فكانت هذه الرواية سجلًّا دقيقًا لمن يقرأها بتمعنّ، فيكتشف بعض الأمور الخطيرة ومنها الخيط الأساسيّ الذي يحرّك اللعبة اللبنانيّة، ويصعق لأنّ الأمور لا تجري على رسلها مثلما تبدو في الظاهر، إذ إنّ يدًا خفيّة تترصّدها وتدير مفاصل هذا البلد الصغير، فتتدخّل في الوقت المناسب لها لتضرب وتقلب الطاولة لصالحها، هذه اليد- العدوّة هي العالمة بكلّ خفايا الداخل اللبنانيّ ولها الكلمة الأخيرة في إدارة الدفّة على أرض الواقع.

هذه حياة الواعظ في رحلته للبحث عن المعنى وفي مراوحته بين البدائيّة الكامنة والتحضّر الكلف، وكأنّ الملّ في بحثها عن أشكال تعبيريّة روائيّةٍ جديدةٍ، قد استعانت بتقنيّة الحوار الذي هزّ فنيّة الرواية فاقتربت في الفصل الأخير من الفنّ المسرحيّ، لتكشف عن مكنونات البطل وتفضح بعض ما خفي من أسرار السرد، لتثبت أنّ وظيفة الكاتب حماية الحقائق لئلّا تنجرف نحو النسيان، وأن يظهر مدى ضعفنا في معركة الوجود بعدما وقعنا في أسره وسيلتهمنا في أيّة لحظة وفي غفلة منّا.

[1] ضحى عبد الرؤوف المل: الواعظ. دار الفارابي. بيروت. ط١. ٢٠٢٠.

[2] محمد الجابري: فكر ابن خلدون. دار الطليعة. بيروت. ط٣. ١٩٨٢. ص ٢٠٩.