عالم مجنون ومستبد

Saturday 16th of May 2020 06:59:43 PM ,
العدد : 4673
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. أثير ناظم الجاسور

تحاول الدول في كل مرحلة تحديد غاياتها وأهدافها في سبيل الوصول إلى نتائج مرجوة من أجل تحقيق مصالحها التي تتنافس من أجلها لابل تدخل في صراعات تهدد كيانها هنا وهناك، فكل مجموعة دول تعمل ضمن معطيات تتناسب مع حجم المرحلة والتحديات التي تواجهها والتي تحتم عليها اتخاذ إجراءات تتطلب في كثير من الأحيان الدخول في معترك المتغيرات التي تطرأ على النظام،

وقد تذوب مع تجدّد الطروحات والتوجهات التي يراد منها أن تكون أساس العمل الدولي بعد أن يتم تأطيرها بمجموعة من الخطوات التي ترسم خارطة طريق جديدة توضح معالم نظام جديد يتم فيه توزيع الأدوار بين اللاعبين من خلال تقسيمهم بين أساسيين وثانويين وتابعين وهامشيين، وكل مجموعة تعمل وفق ما تحتم عليها أهمية المرحلة والدور المناط اليها بعد أن تتناسب مع ما تمتلكه من قدرات، فالعالم مكتظ بالأحداث والتحولات والمفاجآت التي باتت ترعب البشر على هذا الكوكب بعد أن أصبحت كل الأفكار تصب في مجالات الفائدة التي تصاغ وفق مفاهيم القوة والسيطرة والهيمنة.

قبل أن يتم الاتفاق على كيان الدولة القومية ومعاييرها وطبيعتها وشكلها ومضمونها وأغلب دول العالم تعاني من مسألة تحقيق المساواة والحريات وحقوق الإنسان والرخاء والرفاهية والعدالة الاجتماعية التي لطالما كانت القوى الكبرى ( الامبراطوريات) تمنع تحقيقها في سبيل السيطرة، وحتى بعد أن تم الاتفاق على شكل الدولة لم تكتفِ هذه القوى بالسيطرة وبسط نفوذها وقوانينها لا بل تسببت بخرق اتفاقيات ومعاهدات كانت نتائجها حروب طاحنة ومجازر ذهب ضحيتها ملايين من البشر، هذا هو فعل السياسية التي تدخل في أدق التفاصيل لتحدث انفجاراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتكون بالنهاية حاضرة في كل الخطوات التي تتبع من قبل القوى المتنفذة، ان مشكلة هذا العالم اقترنت كل عملياته بمفهوم الصراع والحرب والاستغلال والسيطرة لتخلق كوارث بشرية على مختلف الأصعدة، فالتطورات التي أحدثها العقل البشري المراد منه كسب الفائدة والاستقرار انقلب على تلك التقسيمات من الدول، فالاقتصاد وما تضمنه من نظريات وأفكار والانفجارات التكنولوجية التي جعلت من هذا العالم عالماً متسارع الخطوات كان بحاجة إلى إرادة دولية متضافرة للعمل على تحقيق الرخاء والاستقرار والطمأنينة، لكنه تحول فيما بعد لماكنة لسحق الشعوب التي باتت ترزخ تحت الفقر والاضطهاد وكل ما له علاقة بالقهر.

نعم إنها دوامة تلف كل من يعجز على امتلاك مقومات النهوض واللحاق بركب التطور بعد أن عجز الجميع عن التخلص من فكرة الأقلية والأكثرية ضمن محاولة التنافس المجنون الذي شهده الجنس البشري، فهناك شعوباً تطحن بعجلة التقدم والحداثة وأجيال التطور التكنولوجي، فبين دعوة السوق الحر والانفتاح وتذليل العقبات وترسيخ فكرة الديمقراطية وحرية الفرد ونظام جديد ونسيان القديم ظلت هذه الماكنة المتعجرفة التي تقودها القوى المشكلة للأقلية العالمية تسحق كل من تراه ضعيفاً، فمليارات الدولارات لا بل بلايين تنفق على مشاريع تعمل بالنهاية على ترسيخ فكرة التبعية والشقاء تقودها الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية والمؤسسات النقدية، كل هذا جعل العالم أمام تحديات سواء فيما يخص تجريد الدولة من سيطرتها واضمحلال سيادتها وفق منطق رفع اليد عن كل تصرف اقتصادي بدوره سحب الدولة أن تكون مقيدة بجملة من الإجراءات التي جعلت منها فاقدة للسيطرة عملها الأساسي في تنظيم القضايا الداخلية أو من خلال التدخلات التي تسوغها القوى المسيطرة من أجل الاستمكان هذه المنطقة او تلك، وهذا بدوره أيضاً جعل من شعوبها عرضه لتجارب تحمل في طيّاتها عوامل الفشل أكثر من النجاح.

إن مستويات الفقر المرعبة التي تتحدث عنها التقارير الصادرة من المراكز البحثية والمعنية بشؤون التنمية وغيرها والبطالة والهجرة وتدفق رأس المال، ودول تقع تحت خط الفقر والديون التي ترهق كاهلها كلها كان ضمن خطة تلك الماكنة العالمية التي لا تعرف سوى الربح غير آبهة بتداعيات تلك المشاريع على شعوب العالم ومصيرهم، بالتالي خلقت هذه الحالة تصورات عدة منها من يتحدث عن ثورة تكنولوجية واقتصادية هدفها رفاهية ورخاء الشعوب وما هي إلا مسألة وقت حتى يتحقق كل ذلك وكل مرحلة تحول تحتاج لتضحيات وخسائر، ونظرة أخرى ترى أن ما يحدث هو استهداف واستغلال تتعرض له الدول ومناطق مختلفة حسب أهميتها وموقعها وما تمتلكه من موارد سواء كانت سوقاً حيوياً أو عملية احتواء جديدة لخصوم جدد، فالدول المستغِلة أو المستفيدة نسميها كما شأنا هي في الحقيقة لا تريد أن تعمل على أن تلتقي الحضارات وتتلاقح ولا تحاول تجديد القيم والمفاهيم التي تعيش عليها أغلب الشعوب حتى تكون جاهزة للتطور وتقبل المشاريع الجديدة، فحتى ما يسموه بالاعتماد المتبادل هو بالأساس عمل من طرف واحد في أغلب الحالات وينم عن حالة تبعية عميقة تنتج مخرجات إيجابية للأقوى وأقل أهمية للتابع، ومفهوم القوة الناعمة التي تصدعت به الرؤوس ما هو الا سياسة متبعة من اجل الحصول على أكثر المكاسب بالرغم من تعريفها والاطلاء على مبادئها والعمل على تطبيقها لكنها بالنهاية عملية استغلال لدول مناطق يعدها التفكير الستراتيجي للدول الكبرى مهمة وحساسة وتقع ضمن أولوياته السياسية والاقتصادية فعملية الترغيب التي يتم الحديث عنها ما هي إلا ترهيب لكن بشكل مختلف ، وأما كيف نفسر السيطرة على موارد الدول وقرارها السياسي وتجريد الدولة من كل سلطاتها الداخلية والخارجية وعمليات الضغط على تغيير السياسيات والتحكم بسياسات المنظمات الدولية والمؤسسات النقدية، بالمحصلة فإن هذا المفهوم يسير وفق ستراتيجيات موضوعة من أجل أن تتعامل به هذه القوى وهي تسير نحو تحقيق مصالحها، بالرغم من أنها تستبعد استخدام السلاح في تحقيق المكاسب لكنها في ذات الوقت تحارب الشعوب بالجوع والهيمنة لكن بطرق مختلفة. 

إن نسب الفقر في العالم مخيفة على درجة أن الكثير من الافراد في دول العالم لا يتقاضون أكثر من ( 1.9 دولار) للشخص الواحد في اليوم هذا ناجم عن هشاشة الحال السياسي والاقتصادي في تلك المناطق خصوصاً في الشرق الأوسط وجنوب الصحراء والشمال الافريقي إلى جانب البطالة والهجرة وإفراغها من الأيدي العاملة وكل ما هو مفيد، فقد سجل مؤشر الفقر الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2019 على ( 101 دولة) وتم التقسيم على ذات المنطقة وبالشكل الآتي 

1 - (31) دولة بدخل قومي منخفض.

2 - ( 68) دولة بدخل قومي متوسط.

3 - (2) دولة بدخل قومي مرتفع. 

وأوضح هذا التقرير أن مناطق جنوب صحراء افريقيا وجنوبي آسيا تحتويان على أعلى نسبة من الفقراء في العالم تصل إلى ( 84.5%)، وهذا يبين أن العالم لا يزال يعاني من جراء الأحداث التي تعصف به من حيث الحروب والكوارث والأزمات البيئية والطبيعية والصحية والخ... من الأحداث.

في الحقيقة إن أغلب دول هذه المناطق تعمل على اللحاق بركب التطور والعولمة علماً أنها المناطق الوحيدة التي ارتفع فيها معدل خط الفقر بسبب الازمات والحروب والتجارب التي لم تأتِ بنتائج مرجوة على شعوبها، بالتالي هناك تفسيران لهذه الحالة: 

الأول: يؤكد على الطرق الجنونية التي يدار بها هذا العالم والخطط الموضوعة ما هي إلا لتعزيز سلطة الأقلية العالمية في تحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية من خلال استغلال شعوب العالم باسم التحرر والديمقراطية والمساعدات الإنسانية واللحاق بركب الغرب المتطور.

الثاني: هو الحالة التي وصلت إليها الشعوب ناتجة عن السياسات الخاطئة المتبعة من قبل أنظمتها السياسية التي تسخر كل ما تمتلكه من موارد وقدرات لخدمة الحالة الأولى وتعزيزها في سبيل البقاء وتعزيز سلطتها، بالنهاية فان هذا العالم يدار وفق امزجة وتوجهات القوى المهيمنة ضمن مراحل مرسومة على أسس ونظريات مقابل شعوب خاضعة مسحوقة لا تمتلك حتى حق الحلم فكيف لشعوب تحلم بالرخاء والتنمية وهي جائعة.