«عمَّ يتساءلون»

Monday 18th of May 2020 09:18:08 PM ,
العدد : 4675
الصفحة : عام ,

صلاح نيازي

- 2-

الاختلاف في الإعراب والتشكيل:

قُرِئت «كلّ» في الآية: « وكل شيء أحصيناه كتاباً» بالضمّ والفتح، وللشرّاح فيها مذاهب.

يكتفي الزمخشري في الكشّاف بالرفع على الابتداء دون الاشارة إلى حالة الفتح في القراءات الأخرى كما في رواية حفص لقراءة عاصم الكوفي. وصورة «كلَّ» مفتوحة في «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، وفي «مجمع البيان في تفسير القرآن» للطبرسي، وفي مختصر تفسير ابن كثير.

الاختلاف الآخر في تشكيل لفظتي «رّبّ» و«الرحمن» في آية «ربّ السماوات والارض وما بينهما الرحمن» ففي كشّاف الزمخشري هما مُحركتان بالرفع الا انها في بعض القراءات الأخرى مكسورتان، وفي قراءات أخرى، لفظة رَبِّ مُحرّكة بالكسر بينما: الرحمن مُحرّكة بالرفع، النقاش بين المفسّرين لغوي بحت لا يمسُّ جوهر السورة بلاغياً، كما سنرى

3- الاختلافات في معاني الكلمات والمصطلحات:

قبل كل شيء، لنسرد ما اختلف فيه المفسّرون:

1- النبأ العظيم

2- كلاّ

3- مهاداً

4- أزواجاً

5- سباتاً

6- لباساً

7- وفتحت السماء

8- المعصرات

9- سيّرت الجبال

10- أحقاباً

11- لا يذوقون فيها برداً

12- إلا حميماً وغسّاقاً

13- كواعب أتراباً

14- وكأساً دهاقاً

15- لا يسمعون فيها لغواً ولا كِذّاباً

16- يوم يقوم الروح

17- يا ليتني كنتُ تراباً

لولا قصر هذه المقالة لاستعرضنا تلك الاختلافات - أعلاه -ولوازنّا بينها، وبيّنا لماذا اختلفوا، مع ذلك يمكن القول عموماً إن المفسّرين - كما قلنا - لم يقرأوا السورة كوحدة عضوية متلازمة، تنمو فيها الأفكار نمواً طبيعياً ومنطقياً، بل جزّأوا الآيات وفصلوا بعضها عن بعض، فبدت بعض التفاسير - تبعاً لذلك - مجزأة منفصلة، وكأن لا رابط بينها.

فمثلاً قيل في تفسير: «أزواجاً» في الآية: «وخلقناكم أزواجاً»، بأنها تعني: ذكراناً وإناثاً وطوالاً وقصاراً أو ذوي وسامة ودمامة وجمال، كما ظنّ الطبري. أو تعني كما ذكر الطبرسي: «أيْ اشكالاً كل واحد شكل للآخر. وقيل معناه ذكراناً وإناثاً حتى يصح منكم التناسل، ويتمتع بعضكم ببعض، وقيل أصنافاً أسود وأبيض، وصغيراً وكبيراً إلى غير ذلك».

وعلى هذا النحو تقريباً فسّر القرطبي: الأزواج.

لكنْ من يقرأ السورة كوحدة عضوية واحدة، سيجد أن الآيات السابقة لآية: «وجعلناكم أزواجاً» وكذلك الآيات اللاحقة، لم يرد فيها ذكر للطول والقصر، ولا الدمامة والجمال، ولا للسواد والبياض، ولا للصغر والكبر.

اختلف المفسّرون كذلك في معنى: «برد» في الآية: « لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً». هل البرد هنا كما يقول الزمخشري: «برداً وروح ينفّس عنهم حرّ النار» أم انه «النوم» كما قال الشاعر:

فلو شئت حرّمتُ النساء سواكم/وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا

يذكر ابن كثير: «لا يجدون في جهنم برداً لقلوبهم ولا شراباً طيباً يتغذون به» إن اختلاف المفسرين - وهم فطاحل حقاً - في الاتفاق على معنى «برداً» ناجم بلا ريب عن عدم الربط بين هذه الآية وما سبقها، وإنما قرأوها منفصلة.

والآن لنضرب بعض الأمثلة من المصطلحات التي ربما لم يستطيعوا أن يحددوها فجمح بهم الخيال جموحاً غريباً، فأصبحوا »شعراء» أكثر منهم ومفسّرين. ليتهم قالوا بتواضع لا ندري، أو «علم ذلك عند ربّي» فكفونا شرّ الشطط.

من هذه المصطلحات: «أحقاباً» في الآية: «لابثين فيها أحقاباً» و «الروح» في الآية: «يوم يقوم الروح والملائكة» و«تراباً» في الآية: «ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً».

نكتفي هنا بما جمعه القرطبي من روايات عن «أحقاباً»:

«والحقب ثمانون سنة في قول ابن عمر وابن محيصن وأبي هريرة، والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوماً، واليوم ألف سنة من أيام الدنيا، قاله ابن عباس، وروى ابن عمر هذا مرفوعاً إلى النبي (ص). وقال ابو هريرة: والسنة ثلاثمائة يوم وستون يوماً وكلّ يوم مثل أيام الدنيا. وعن ابن عمر أيضاً: الحقب: اربعون سنة، السدي: سبعون سنة. وقيل إنه ألف شهر. رواه أبو امامة مرفوعاً. بشير بن كعب: ثلاثمائة سنة، الحسن: الأحقاب: لا يدري أحد كم هي، ولكن ذكروا أنها مائة حقب، والحقب الواحد سبعون ألف سنة، واليوم منها كألف سنة مما تعدّون... الخ... الخ. 

يعلّق القرطبي على هذه الالتباسات بقوله: «هذه أقوال متعارضة، والتحديد في الآية للخلود، يحتاج إلى توقيف يقطع العذر، وليس ذلك بثابت عن النبي (ص) وإنما المعنى - والله اعلم - ما ذكرناه أولاً، أي لابثين فيها أزماناً ودهوراً، كلما مضى زمن يعقبه زمن، ودهر يعقبه دهر، هكذا أبد الآبدين من غير انقطاع».

على الرغم من أن القرطبي، لم يطمئن إلى ما رواه المفسرون في تفسير «الأحقاب»، إلا أنه هو نفسه وقع في نفس التخرّص والمطبّ، كما سنرى.

لولا ضيق المجال لسردنا الاختلافات الغريبة العجيبة في تحديد معنى «الروح» في الآية: «يوم يقوم الروح والملائكة». ولكن لنتمعن بما قاله المفسّرون في «تراباً» في الآية: «ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً».

قال الطبري: «ويقول الكافر يومئذٍ تمنياً لما يلقى من عذاب الله الذي أُعدّ لأصحابه بالكافرين به يا ليتني كنت كالبهائم التي جُعلت تراباً... حدّثنا محمد بن بشّار قال ثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي قال ثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو قال إذا كان يوم القيامة مدّ الأديم وحشر الدواب والبهائم والوحش ثم يحصل القصاص بين الدواب يقتصّ للشاة الجمّاء من الشاة القرناء نطحتها، فإذا فرغ من القصاص بين الدواب، قال لها كوني تراباً، قال عند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً... الخ».

ينقل الطبرسي ما قاله المقاتلان إن الله يجمع الوحوش والهوام والطير وكل شيء غير الثقلين، فيقول: مَنْ ربّكم؟ فيقولون: الرحمن الرحيم. فيقول لهم الربّ بعد ما يقضي بينهم حتى يقتص للجماء من القرناء: إنّا خلقناكم وسخرناكم لبني آدم، وكنتم مطيعين أيام حياتكم، فارجعوا إلى الذي كنتم، كونوا تراباً، فتكون تراباً. فإذا التفت الكافر إلى شيء صار تراباً يتمنى فيقول: يا ليتني كنتُ في الدنيا على صورة خنزير، رزقي كرزقه، وكنت اليوم أي في الآخرة تراباً. وقيل إن المراد بالكافر هنا ابليس، عاب آدم بأن خلق من تراب، وافتخر بالنار، فيوم القيامة إذا رأى كرامة آدم وولده المؤمنين، قال: يا ليتني كنتُ تراباً».

يبدو أن الطبرسي لم يربط بداية السورة بنهايتها، وإلاّ فكيف جاء بالخنزير وكيف تمنى الكافر أن يكون على صورته ورزقه كرزقه؟

أكثر من ذلك، كانت بداية السورة تتحدث عن جمهرة من الناس يتساءلون عن النبأ العظيم، فكيف أصبحوا «إبليس» في تفسير الطبرسي؟

بعد ان استعرضنا ما تيسّر لنا من تفاسير، وكيف اختلف المفسّرون لأنهم قرأوا السورة، آيات منفصلات بدرجات متفاوتة، نعود فنقرأ السورة كوحدة عضوية متواشجة، نهايتها مرتبطة ببدايتها، أو أن بدايتها بذور، تنمو وتتطور إلى أفكار ناضجة في النهاية.