من نهاية التاريخ إلى نهاية الإنسان

Monday 18th of May 2020 09:22:11 PM ,
العدد : 4675
الصفحة : آراء وأفكار , علي حسين

 علي حسين

لم تعد مسألة الوجود الإنساني مقتصرة على نصوص الروائيين وقصائد الشعراء وتنظيرات الفلاسفة وألغازهم في الوجود والعدم ، وإنما أصبح الوجود الإنساني موضوعاً يناقش على المائدة في البيت وسط حالة من الذعر أصابت البشرية بعد انتشار فايروس كورونا . لقد اعتلى مصطلح الوجود منصة الجدال اليومي منذ أسابيع ، فالمجتمع الإنساني الذي جعل من نفسه حارساً للقنبلة الذرية ،

يجد نفسه اليوم مسؤولاً عن حياته وموته وأصبح عليه كما كتب جان بول سارتر قبل أكثر من نصف قرن أن " يقرر موافقته على الحياة " ، فلم يعد مصير الإنسان أو مصير مجموعة من الناس هو الذي نضعه في الميزان ، وإنما مصير الإنسانية جمعاء . ووجود الإنسانية يتوقف على الفعل الصحيح الذي نتخذه في هذا الشأن .

وعندما نتحدث عن وجودنا فإننا نقصد به وجود البشرية ، فالقضية لم تعد مصير الإنسان الفرد كما في روايات دستويفسكي ، فالإنسان أصبح مثلما كان يأمل ديكارت ، سيداً ومالكاً للطبيعة . لكن الى الحد الذي أصبح فيه يستطيع أن يمحو كل أثر للحياة ، يكتب الفرنسي غابريل مارسيل :" اليوم يجد الناس أنفسهم في مواجهة واقعة لم يكن في وسع أحد أن يتخيلها ، إنهم يعلمون أن في استطاعتهم تدمير الكون " .

لقد وضع التقدم العلمي أمام الإنسان تلك المشكلة التي أوجدتها إمكانياته ذاتها ، وهي : إن وجود الإنسان يعتمد على القرار الذي يتخذه هو . وقد جعلت كل فلسفة حيّة مهمتها إلقاء الضوء على هذا القرار ، ووجد المفكر المعاصر أن هذه المشكلة تمثل بالنسبه له معياراً يقيس به قيمة الدور الذي يلعبه في مشكلة الحياة ، يطرح يوجين يونسكو هذا السؤال :" منذ أية لحظة تُركنا لمصيرنا ولم نعد متفرجين ومشاركين ؟ لقد تُركنا لأنفسنا ، لعزلتنا ، لخوفنا فولدت المشكلة : ما العالم ؟ ومن نحن ؟ .

اليوم يجد الكائن المستضعف نفسه أمام عبث من لون جديد .. إنه سيزيف العصر الحديث ، يصارع المستحيل ، ويحاول أن يقاوم الأوبئة التي ما تنفك عن التجديد . كان سيزيف في الأسطورة الاغريقية يصارع الآلهة . بيد أن سيزيف اليوم امام آلهة جديدة يجد نفسه امامها ضعيفا ، خائفا ، لقد كان سيزيف الأسطورة يصارع قانون الجاذبية ، أما نحن فنصارع اليوم قانون القدر والفناء .

لعل سؤال " كيف يحيا الإنسان ؟ " هو السؤال الذي ظل يطرح على مدى الأزمنة المختلفة .. في الفلسفة القديمة كان السؤال الذي طرحه سقراط هو كيف يحيا الإنسان على طريقة معينة لمقاربة الحياة ، ما هو المسار الذي يجب أن تأخذه الحياة الإنسانية ؟ ما هي أفضل المساعي للكائن الإنساني لكي يتعايش مع الكون ، ، وبحلول القرن الثامن عشر طرح إيمانويل كانط سؤالاً مختلفاً . فلم يعد الاهتمام منصباً على كيف يجب أن يحيا الإنسان ، وإنما على الشكل الذي يجب أن تأخذه حياة الإنسان ، وصار السؤال هو : كيف يجب أن يفعل الإنسان ؟ لأن حياة الإنسان لن تكون أكثر من محصلة أفعاله ، وفي العصر الحديث أُفسح المجال لسؤال ثالث وهو : هل إن نهاية الإنسان باتت قريبة ؟ ، إنه عصر نهاية الانسان كما كتب فرنسيس فوكوياما عام 2010 في كتابه " نهاية الإنسان " الصادر عام 2002 ، وهو الكتاب الذي بدأ كمشروع مقال كتبه عام 1999 لمجلة ناشيونال جغرافيك استعرض فيه العشر سنوات التي مضت منذ ظهور كتابه " نهاية التاريخ " ، ويبدأ فوكوياما كتابه " نهاية الإنسان " بالعبارة التالية التي يقتبسها من الروائي الدوس هكسلي :" نهاية الإنسان هي المعرفة ، لكن شيئاً واحداً لا يمكنه أن يعرفه : إنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت المعرفة ستقتله أم سُيقتل ، نعم ، أنه لا يستطيع أن يعرف ما إذا كان قد قُتل بسبب المعرفة التي اكتسبها أم بسبب المعرفة التي لم يكتسبها ، والتي كانت لتنقذه لو أنه عرفها " .

ويؤكد فوكوياما إنه أثناء تفكيره فيما ظهر من ردود على كتابه نهاية التاريخ ، بدا له أن الجدل الوحيد الذي لايمكن إنكاره ، هو إن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية إلا إذا كانت للعلم نهاية .. إننا اليوم نعيش في بيئة جديدة تماماً لم تكن موجودة منذ قرن مضى ، فهل علينا أن نتحوّر لنلائمها .في " نهاية الإنسان " يصر فوكوياما أن العلم والتكنولوجيا يمثلان موطن الهشاشة في الحضارة الغربية ، لأن كل رموز الحضارة تحوّلت الى أسلحة شريرة ، مثل ظهور السلاح البيولوجي ، الذي يدعونا الى تحكم سياسي أكبر في استخدامات العلم .

في كانون الثاني عام 1941 ، بدأ ألبير كامو العمل على رواية عن فيروس ينتقل من الحيوانات إلى البشر ، حيث ينتهي به الأمر الى تدمير نصف سكان مدينة " وهران " على الساحل الجزائري . يقول الفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون إن رواية "الطاعون" التي نُشرت عام 1947 كانت ولا تزال أعظم رواية أوروبية وضعتنا أمام حقيقتنا .

لكتابة رواية الطاعون قرأ كامو عن الموت الأسود الذي قتل ما يقدر بنحو 50 مليون شخص في أوروبا في القرن الرابع عشر ، والطاعون الإيطالي عام 1630 ، والطاعون العظيم في لندن عام 1665 وكذلك الأوبئة التي دمّرت المدن في شرقي الصين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

لم يكن كامو ينوي الكتابة عن طاعون واحد ، ولم تكن الرواية حكاية مجازية عن الاحتلال النازي لفرنسا ، إنها صرخة تنبهنا الى أن جميع البشر عرضة للإبادة العشوائية في أي وقت ، بسبب فايروس ، أو تصرفات شخص معتوه .

في رواية كامو لا يريد أهل وهران تصديق أن الطاعون فتك بمدينتهم ، حتى عندما يموت ربع سكان المدينة تقول إحدى شخصيات الرواية : "من المستحيل أن يكون الطاعون ، والجميع يعرفون أنه اختفى من الغرب". ويكون الجواب على لسان شخصية أخرى: " نعم ، الجميع عرف ذلك ، باستثناء القتلى" .

يكتب دو بوتون :" بالنسبة لكامو ، عندما يتعلق الأمر بالموت ، لا يوجد تقدم في التاريخ ، ولا مفر من ضعفنا. البقاء على قيد الحياة كان دائماً وسيظل دائماً حالة طوارئ ، إنها ( حالة كامنة ) لا مفر منها. الطاعون أو لا يوجد طاعون " .

في ذروة الطاعون ، عندما يموت 500 شخص يومياً ، يلقي رجل الدين خطبة ، يؤكد فيها أن الطاعون عقاب من الله على الفساد. لكن الطبيب يشاهد أطفالاً يموتون ، وهم لم يرتكبوا الخطايا ، فالمعاناة موزعة بشكل عشوائي .

بعد أكثر من عام ، سينحسر الطاعون. يحتفل سكان المدينة. لقد انتهت المعاناة ، وستعود الحياة الى طبيعتها ، لكن ألبير كامو يكتب :" إن هذا لا يمكن أن يكون قصة انتصار نهائي، يمكن أن يكون فقط ما يجب القيام به مرة أخرى ضد هذا الإرهاب." ويواصل :" الطاعون لا يموت أبداً .. تنتظر بصبر في غرف النوم والأقبية لليوم الذي ستقوم فيه الحياة مرة أخرى بإحضار فئرانها وإرسالنا للموت " .

ظل كامو يكتب أن "كل شخص في داخله ، هذا الطاعون ، لأنه لا يوجد أحد في العالم ، لا أحد ، محصن".

في مقال نشره مؤخراً يكتب آلان دو بوتون عن فايروس كورونا :" عندما تعيش في العالم الحديث ، فأنت تعتقد ، بشكل أساس ، أن العلم والتكنولوجيا قادران على التغلب على الطبيعة. هذا هو الاعتقاد العميق الذي يقوم عليه عصر التنوير ، ونحن ، الذين نعيش في هذا العالم مقتنعون بأننا قد غزونا الطبيعة . بأننا الأنواع السائدة ، المفترس الأعلى و أن البيئة تخضع لسلطتنا. في الواقع نحن نشعر بالسيطرة على بيئتنا لدرجة أننا نسمح لأنفسنا بالشعور بالأسف تجاهها ، حتى عندما ندمّرها " .

عندما كتب الفيلسوف الروماني سينيكا من أننا يجب أن نبدأ كل يوم من خلال التفكير بعمق في كل عذاب يمكن أن تلحقه الحياة بنا، فإنه طالبنا بأن نفكر في كل شيء ، ونتوقع كل شيء. ولهذا يطالبنا دو بوتون بأن نتفحص الوباء مثل سنيكا ، فالوباء وهو يطوق العالم ، سيجعلمنا ندرك جيداً أن العالم الذي بنيناه ينهار أمام أعيننا .

ويرد دو بوتون على سؤال : ماذا ستفعل الفلسفة أمام الوباء ؟ علينا أن نتمسك بطريق مونتاني الذي قال إن الشك هو الطريق الى المعرفة: "يا لها من وسادة جيدة ، شك بالنسبة لرأس متوازن بشكل جيد." هذا ما يتعين علينا القيام به. النوم على وسادة الشك. هذا هو نوع الفلسفة التي نحتاجها الآن. سيقول البعض حتماً إنه مجرد فيروس صغير ، وأن كل شيء سيكون على ما يرام ، يجيب دو بوتون : هذا صحيح.. ستبقى البشرية ، لكن عليها أن لاتنسى وصية مونتاني " النوم على وسادة الشك " .. ويتساءل دو بوتون : ماذا سيحدث؟ أين سنكون في العام القادم ؟ يكتب :" نحن نؤمن بالاستمرارية وعدم الاستقرار. نحن ندرك الحقيقة التي تقول : غداً سيبدو اليوم" ويضيف :" سنستمر في الاعتقاد بأننا خالدون ، ونتجول في العالم ، وننخرط في شؤوننا، ولكن في الوقت نفسه ، نحن بحاجة إلى التمسك بجانب آخر أيضاً: جانب مسؤول عن ما ينتظرنا " 

ويؤكد دو بوتون أن الفلسفة يمكن أن تساعدنا في النظر إلى العالم :" نحن الأنواع الوحيدة القادرة على فهم الكون ، حتى ولو بطريقة محدودة ، وأعتقد أننا سنفعل جيداً للالتزام بهذا المنظور ، إذا تمكنا من تحرير أنفسنا من أنفسنا ، فسوف نكون قادرين على تبني وجهة النظر هذه " .

فيما يجيب فرنسيس فوكوياما وهو يقضي فترة الحجر المنزلي في بيته في سان فرانسيسكو على سؤال :" ما الذي حدث للديمقراطيات الليبرالية لتقاوم فايروس كورونا بشكل سيئ ؟ :" إن للوباء جانباً مشرقاً لأنه أخرج العديد من الدول الديمقراطية من حالة الرضا عن النفس، وكشف عن الحاجة إلى المزيد من الاهتمام بالصحة العامة والمزيد من الاستثمار في الخدمات الاجتماعية. 

كيف يمكن أن نحيا ؟ يحلينا دو بوتون الى الرسام الفرنسي هنري ماتيس المولود 1869 ، والذي عاش حياة مليئة بالمعاناة ،لكنه أصرّ على أن يرسم الأمل :" لوحاته سعيدة للغاية ، والشمس مشرقة ، والأشجار تتفتح ، والناس يبتسمون " . يتذكّر ماتيس أنه عاش طفولة بائسة وفقيرة ، لكن علبة الألوان التي أهدتها له أمّه بعد شفائه من المرض غيّرت قدره .. كانت العلبة هي الأمل الذي كان يحتاجه في ذلك الوقت .

هل نحن اليوم بحاجة إلى الأمل ، يصر دو بوتون إننا بحاجة الى ما يسمى أمل المشنقة:" نحن جميعاً نذهب إلى المشنقة ، ولكن على طول الطريق توجد ثمار رائعة وهناك طفل لطيف ، ربما سنأكل الرمان. ربما سننظر إلى السماء. كل هذه الأشياء لا تزال ممكنة. أشياء جميلة ، مليئة بالأمل. يجب علينا أن نعتز بهم أكثر من أي وقت مضى ، لأن هذا ما يجعل حياتنا تستحق العيش. بذور الرمان. ابتسامة طفل عمره 3 سنوات. شاطئ البحر. هذه هي الأشياء التي تستحق التمسك بها في هذه الأوقات " .

في أيام الحجر المنزلي يقضي وريث مدرسة فرانكفورت الألماني يورغن هابرماس وقته أمام جهاز الحاسب الآلي متأملاً في علوم وتاريخ الفكر يخفف وطأة الحجر عليه. ، يؤمن بأن العالم سيعيش في مأزق ما بعد الديمقراطية.وهو يتذكر أن باسكال كتب في خمسينيات القرن السادس عشر أن : " السبب الوحيد لعدم رضا الإنسان هو أنه لا يستطيع البقاء بهدوء في غرفته."

إن الاضطرار إلى البقاء في غرفة واحدة نوع من التعذيب النفسي . كيف يمكن للروح البشرية أن تسكن أربعة جدران ، في الوقت الذي هناك كوكب كامل لاستكشافه؟ . يكتب دو بوتون أن " فترة من التفكير الهادئ في غرفتنا تخلق مناسبة يمكن للعقل أن يفهم نفسه بشكل صحيح " .