بلند الحيــدري وجاذبية الفلسفة (6-8)

Tuesday 19th of May 2020 09:24:49 PM ,
العدد : 4676
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د.حسين الهنداوي

إضافة الى ذلك، هناك اطلاعه على كتاب «الزمان الوجودي» لعبد الرحمن بدوي. إذ أكد بلند مراراً أنه كان على علاقة طيبة بعبد الرحمن بدوي الذي أثر بالفعل في توجهه بفضل مناقشاته معه أثناء وجود بدوي في بغداد في عام 1950. ويذكر بلند قبل رحيله بفترة وجيزة، أن بدوي أثر بالفعل في توجهه، وهو ما انعكس تماماً في ديوانه "أغاني المدينة الميتة" .

لا نعرف شيئاً مهماً عن تلك المناقشات. بيد إننا نعرف أن عبد الرحمن بدوي (المولود في شباط (فبراير) 1917 والمتوفي في تموز (يوليو) 2002) والمتأثر بسارتر وخاصة هايدغر، كان في تلك الفترة يلقب سلفاً بأول فيلسوف وجودي عربي نظراً الى أطروحاته في مؤلفه «الزمان الوجودي» الذي هو في الأصل عنوان رسالة لنيل الدكتوراه دافع فيها عام 1944 عن عدد من مشكلات الفلسفة الوجودية أمام طه حسين الذي تنسب المصادر له القول عن بدوي أثرئذ: :"أشاهد فيلسوفاً مصرياً للمرة الأولى" .

ويبدو أن زيارة بدوي الى بغداد كانت ضمن جولاته في عدة دول عربية محاضراً لامعاً عن الأفكار الوجودية في فترة كان نفوذه الفكري قد حقق رصانة واسعة بفضل غزارة انتاج فلسفي تمثل في سلسلة من المؤلفات أبرزها حتى زيارته الى بغداد تلك: «نيتشه» (1939)، و«التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية» (1940)، و«اشبنجلر» (1941)، و«شوبنهور» (1942)، و«افلاطون» (1942)، و«خريف الفكر اليوناني» (1943)، و«الزمان الوجودي» (1945)، و«من تاريخ الإلحاد في الاسلام» (1945)، و«أرسطو عند العرب» (1947)، و«الإنسانية والوجودية في الفكر العربي» (1947)، و«شخصيات قلقة في الإسلام» (1949)، و«رابعة العدوية» (1948)، و«شطحات صوفية» (1949)، و«منطق ارسطو» (1949)، و«روح الحضارة العربية» (1949)، و«الإشارات الإلهية» (1950)، إضافة الى عدد كبير من المقالات والندوات كان بعضها عن الفلسفة الهيغلية التي سينشر عنها بدوي في فترة متأخرة من حياته ثلاثة مؤلفات هي «حياة هيغل» و«فلسفة الجمال والفن عند هيغل» و"فلسفة القانون والسياسة عند هيغل" .

الى جانب كتابات عبد الرحمن بدوي الذي بدا في تلك الفترة كمن يحمل مشروعاً فلسفياً وجودياً متكاملاً سرعان ما بدأت تأثيراته تظهر هنا أو هناك من الدول العربية، راح عدد من المجلات الأدبية والثقافية الصادرة في القاهرة وبيروت يروج للوجودية بمقالات وترجمات مختلفة ساهمت في جذب كثير من المثقفين العرب إلى الوجودية السارترية خاصة بسبب الثقل المعرفي والفلسفي الذي اقترنت به.

ومن المؤكد لدينا أن الوجودية سبقت بدوي الى بغداد بسنوات على يد عدد من الأدباء العراقيين اشهرهم الكاتب والناقد نهاد التكرلي (المولود في بغداد عام 1922 والمتوفى في 1982)، الذي قد يكون أول (أو على الأقل بين أوائل) من روجوا لفكر جان بول سارتر وألبير كامو وسيمون دي بوفوار وحاولوا ترجمته الى العربية منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي. 

ويتميز نهاد التكرلي بتوجهه الفلسفي المركز في التعريف بالأفكار الوجودية وبالميل الى الاعتماد على نصوصها مباشرة. من هنا جاء جهده المبكر في ترجمة رواية «الغريب» لكامو التي لم يجد ناشراً لها فاقتصر على اطلاع أصدقائه عليها ولا نستبعد أن يكون بلند الحيدري من بينهم نظراً لعلاقتهما الوطيدة آنذالك. كما نشر ملخصاً لكتاب سارتر الآخر «الوجودية مذهب إنساني» على شكل مقالين في مجلة «الأديب» اللبنانية تحت عنوان «الوجودية لدى سارتر». بل كاد نهاد التكرلي أن يصبح أول من يترجم الى العربية كتاب سارتر الشهير «الوجود والعدم» لولا أنه هجر هذا المشروع معترفاً بتعقيد هذا المؤلف السارتري الذي سيترجمة عبد الرحمن بدوي لاحقاً. 

ويعترف التكرلي في شهادة له منشورة في كتاب عنه بعنوان «نهاد التكرلي رائد النقد الأدبي الحديث في العراق» أنه كان يجتاز أزمة فكرية ونفسية خاصة بعد انهيار القيم التقليدية في نظري وزوال بعض الأوهام التي كنا نؤمن بها بسذاجة في عهد الصبا، مضيفاً: 

"في تلك الحقبة تأثرت كثيراً بكتابات الدكتور عبد الرحمن بدوي، ثم بدأت بعض المجلات المصرية واللبنانية تتحدث عن فلسفة العبث لألبير كامو... وعن الوجودية وعن جان بول سارتر، وكان من الطبيعي أن يثير هذا الحديث اهتمامي ويدفعني إلى الإطلاع على هذه الفلسفة". 

كما يقول نهاد التكرلي في موضع آخر من شهادته: 

"في العام 1950 نشرت مقالاً في مجلة الأديب تحت عنوان «جيل مفقود» لا شك أنه يعبّر تعبيراً صادقاً عن أفكاري وعن حالتي النفسية في تلك المرحلة من حياتي. كانت الوجودية عندئذ تجيبني على أسئلة عديدة من الأسئلة التي أطرحها على نفسي. ولا شك أن هذا هو السبب الأساس الذي جعل هذه الفلسفة تجتذبني".

بداهة، لا يتسع المجال في هذا المقال، لعرض كافة الاسئلة الثقافية والتاريخية التي أثارتها الوجودية السارترية وماهية سياقاتها المعرفية والأدبية والتاريخية. 

بيد أن قضايا الدفاع عن الحرية الفردية وعن التعبير في أشكال مجدِّدة ومغايرة للتقليد وما يترتب عن ذلك من دعوة الى استثناء الأدب والفن من الالتزام وكذلك الرفض الضمني والمبكر للايديولوجيا فيهما وفي الحياة إجمالاً، كانت بين أكثر الأفكار الوجودية تأثيراً في أوساط تلك النخبة من المبدعين العراقيين الذين كان بلند الحيدري منهم. 

فالالتزام السارتري مثلاً لم يرهن نفسه بحسابات أو أهداف باستثناء رفض النمذجة في الكتابة والفن وفي الفكر السياسي تالياً متموضعاً هكذا في تضاد مع موقف الايديولوجيات بشأن تلك القضايا التي كان جان بول سارتر قد ناقشها فلسفياً في سلسلة مقالاته الشهيرة في مجلة «الأزمنة الحديثة» التي كان يصدرها قبل أن ينشرها عام 1947 في كتابه «ما الأدب؟» الذي سرعان ما أصبح مرجع الوجوديين في كل مكان كلما أثيرت مشكلة مسؤولية الالتزام والاستقلال الذاتي في الأدب والفن ودور الكتابة في التغيير وفي الصراع الاجتماعي والسياسي. وهو مرجع يتموضع كاستمرار لتيار الحداثة الشعري الذي بدأه مالارميه وفلوبير وبودلير منذ منتصف القرن التاسع عشر وتبلور عنه اتجاه حداثي يدعو لتخليص الشعر من المشاركة وجعله مهتما بالصورة واللغة وجمالية الكتابة، بعيداً عن أي مهمات واقعية أو توظيف: 

الأبداع شرطه الحرية الفردية للشاعر أو الفنان لكن القارئ أو المشاهد هو الذي يعطي وجوداً للنص الإبداعي إنما عبر ممارسة حريته الفردية كشرط.